الخميس، 14 أغسطس 2014

دفاع مختصر عن العلامه اوريجينوس

وُلد أوريجينوس بالأسكندرية سنة 185م وصار عميدًا لمدرسة الأسكندرية من سنة 203 حتى سنة 231. ثم ذهب إلى قيصرية فلسطين وأسس مدرستها اللاهوتية وعلّم بها حتى سنة 249 وناله عذابات كثيرة في اضطهاد داكيوس وتنيح سنة 253.

    وقد كتب بروفيسور كواستن أستاذ علم الباترولوجي الشهير في بداية دراسته عن أوريجينوس ما يلي: [ بلغت مدرسة الأسكندرية (اللاهوتية) إلى أهميتها العظمى بقيادة أوريجينوس، المعلم والعالم البارز للكنيسة الأولى، إنسان بلا لوم في أخلاقه، وذو معرفة موسوعية، وأحد أكثر مفكري العالم أصالة في العصور كلها ] (1)
   .
    ويقول عنه كواستن في نفس الوقت [ رغم أن أوريجينوس أعطى اهتمامًا عظيمًا بدراسة الكتاب المقدس، واعتبر الفلسفة مجرد خادمة للمسيحية ويؤكد على أهمية الكتاب المقدس أكثر من معلّمه كليمندس الأسكندري، إلاّ أنه أخطأ بأن سمح لفلسفة أفلاطون أن تؤثر على فكره اللاهوتي أكثر مما ظن في نفسه. وهذا أدى إلى أخطاء خطيرة، خاصةً تعليمه عن خلق النفس البشرية قبل خلق الجسد ]. (2)

    ويذكر كواستن أن أوريجينوس بالغ في استعمال الطريقة الرمزية في تفسير الكتاب المقدس مما نتج عنه بعض الأخطاء. ولهذا السبب حدث خلاف في الرأي بين الآباء منذ القرن الرابع حول ما ورد في كتابات أوريجينوس من بعض الأفكار إلى أن انتهى الأمر في القرن السادس بإدانة الأفكار الخاطئة الشائعة عنه  في مجمع عقده الإمبراطور جوستنيانوس الأول بالقسطنطينية سنة 543، وهو المجمع المسكوني الخامس عند الروم، والذي لم تشترك فيه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية طبعًا لأنه بعد انشقاق مجمع خلقيدونية تاريخيًا.

    ويضيف كواستن [ كان مصير أوريجينوس أن يكون علامة اختلاف وتعارض أثناء حياته كما بعد وفاته أيضًا. ويندر أن نجد شخصًا مثله له أصدقاء كثيرون جدًا أو أعداء كثيرون جدًا. صحيح أنه ارتكب بعض الأخطاء، ولكن لا يمكن أن يشك أحد أنه كان تواقًا وراغبًا بشدة أن يكون ـ على الدوام مسيحيًا عميقًا مستقيم الإيمان في إيمانه وثقته بالله. فهو (أى أوريجينوس) يسجل في بداية كتابه اللاهوتي الرئيسي " إن ما يجب أن يكون مقبولاً على أنه هو وحده الحقيقة والحق ـ هو ما لا يختلف من أى جهة من الجهات مع التقليد الكنسي والرسولي " (3). ولقد جاهد أوريجينوس بكل قواه لكي يتبع هذه القاعدة وختم جهاده هذا بدمه في نهاية حياته ].

    ونذكر هنا حقيقة هامة فيما يخص عقيدة أوريجينوس في ألوهية المسيح.

    لقد حارب أوريجينوس بدعة سابيليوس التي كانت تعلم بأن الله هو أقنوم واحد له ثلاثة وظائف متتالية تاريخيًا، أولاً الآب، ثم هو نفسه صار الابن، وبعد ذلك هو نفسه جاء كالروح القدس. ودافع أوريجينوس بقوة عن وجود الأقانيم الثلاثة التي لها نفس الجوهر .. ورغم أن البعض ـ جيروم بالتحديد ـ اتهمه بأنه يعلّم بأن الابن أقل من الآب إلاّ أن القديس غريغوريوس العجائبي والقديس أثناسيوس الرسولي يبرءانه من هذا التشكك في تعليمه عن ألوهية المسيح ومساواته للآب. والعلماء المحدثين مثل Regnon ، Prat يبرءانه أيضًا من هذه التهمة (4)

القديس أثناسيوس يشهد لتعليم أوريجينوس عن ألوهية المسيح:

    كتب القديس أثناسيوس الرسولي كتابًا للدفاع عن صيغة إيمان مجمع نيقية المسكوني الأول المنعقد سنة 325 ( De Decretis )
    وفي الفصل 6 من هذا الدفاع يستشهد القديس أثناسيوس بأربعة آباء ومعلّمين استلم منهم آباء مجمع نيقية الإيمان المستقيم بأن ابن الله من نفس جوهر الآب وأوريجينوس هو أحد هؤلاء الآباء الذين استشهد بهم.

    وننقل هنا ما كتبه القديس أثناسيوس عن إيمان أوريجينوس. يقول القديس أثناسيوس: [ وفيما يخص الوجود الأزلي للكلمة مع الآب، وأن الكلمة ليس من جوهر آخر بل هو من الآب ذاته، كما قال الأساقفة في المجمع، يمكنكم أن تسمعوا أيضًا من أوريجينوس؛ محب الأتعاب   (5) ، لأن ما كتبه من باب البحث والتدريب، لا ينبغي لأى أحد أن يعتبره مجرد مشاعره الشخصية ـ بل هى أفكار الفرق المتصارعة في البحث، أما ما يعلنه بصورة مؤكدة ومحددة فهذا هو فكر هذا الإنسان المحب للأتعاب، ... فهو يقدم اعتقاده الشخصي هكذا: [ صورة الإله غير المنظور هى صورة غير منظورة، بل أتجاسر وأقول بما أنه صورة الآب فهو كان موجودًا دائمًا. لأنه متى كان الله ـ الذي بحسب يوحنا يدعى النور (لأن "الله نور") متى كان بدون بهاء لمجده الذاتي، حتى يتجرأ أى إنسان أن يؤكد أن أصل وجود الابن كأنه لم يكن موجودًا قبلاً؟ ولكن متى كان صورة الآب التي لا يعبر عنها ، والجوهر الذي لا يسمى ولا ينطق به، ذلك التعبير والكلمة، والذي يعرف الآب، متى كان غير موجود. بل دع ذلك الذي يتجاسر أن يقول " كان الابن غير موجود في وقت ما "، دعه يفهم جيدًا أنه بهذا هو يقول إن الحكمة لم تكن موجودة في وقت ما، والكلمة لم يكن موجودًا، والحياة لم تكن موجودة ".
    وفي موضع آخر يقول أوريجينوس: [ ولكنه ليس أمرًا بريئًا أو هو أمر بلا مخاطرة، إن كنا بسبب ضعف فهمنا، نجرد الله ـ في ذهنننا، من الكلمة الوحيد الجنس الكائن أزليًا مع الله؛ وهو الحكمة التي فرح بها؛ ففي هذه الحالة ينبغي أن يُدرك على أنه ليس عنده فرج على الدوام ] (6)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - JOHANNES QUASTEN PATROLOGY Vol.11, p.37. 4th printing 1975, spectrum publishers, UTRECUT-ANTWERP, U.S.A.


2 - Quasten, Patrology vol.11. p.42.

3 - حول المبادئ، Deprinc. Praef. 2

4 - انظر Patrology by Quasten Vol.11. p. 77

5 - φιλοπόνου = Labour – Loving .. أورد القديس أثناسيوس هذا الوصف بمدح أوريجينوس مرة أخرى في الرسالة الرابعة إلى الأسقف سرابيون عن الروح القدس (انظر الرسائل عن الروح القدس إلى سرابيون 9:4) الترجمة العربية

6 - Nicene and post Nicene Fathers 2nd series Vol.4 De Decretes p. 168.

مأخوذ عن كتاب : شرح سفر العدد ، للعلامه اوريجينوس  ج 2 . ترجمة القس برسوم عوض و القس شنوده امين و الانسه مارسيل عوض الله . مراجعة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 6 : 9

لماذا خلقنا الله . عمل الخلق في الفكر المسيحي

في حياتنا اليومية تتبادر دوماً إلى أذهاننا أسئلة عن أصل الأشياء وأصل الانسان: مَن صنع هذا الشيء وما هو مصنوع؟ من أين أتى هذا الانسان؟ مَن هم ذووه؟ أين وُلد وأين تعلَّم؟ من خلال ماضي الانسان نحاول أن نكتشف حاضره. وللتعمّق في معرفة ذواتنا نحاول أن نتذكّر نحن أيضاً تاريخنا الماضي وحياتنا السالفة.

لا يكتفي الايمان بتلك العودة في الزمن إلى ماضي الأشياء وماضي الانسان، بل يحاول اكتشاف الأصل اللازمني لجميع الكائنات، أي علّة وجودها ومبدأ كيانها.
كل انسان يختبر حدود وجوده في المكان والزمان، ولا سيمَا في أوقات الضيق والمرض والضعف والموت. من خلال تلك الخبرة يكتشف المؤمن أن الكائن المحدود لا يمكن أن يكون هو أصل ذاته. عندئذٍ ينفتح الكائن المطلق ويرى فيه أصل كل كيان وكل وجود. ويدرك إذّاك ان حياته هي نعمة أُعطيت له من قبل الله.

هذا ما تؤمن به مختلف الديانات وتعبّرعنه في عقيدة الخلق. وتلك العقيدة ليست نظرية علميّة تهدف إلى تفسير الطريقة التي خلق الله بها الكون، بل تعبير عن إيمان الانسان بعلاقته بالله أصل كيانه وعلّة وجوده. (1)

و في حديثنا هذا عن لماذا الخلق وجدنا ان الاباء بالاساس وضوعوه بين اربعة اسباب :
1 - الخلق يعرف من خلال التجسد .
2 - الخلق شركه .
3 - الخلق نتاج صلاح الله و نعمته .
4 - الخلق عمل اله منتج مبدع ( كفنان عظيم ) .
5 - الخلق عمل حب .

1 - الخلق يعرف من خلال التجسد :

كان تنازل الله الواضح و اعلانه عن ذاته في يسوع المسيح ابنه الحبيب – الذي به خُلِقت كل الاشياء – هو المنطلق الذي من خلاله تأمل الاباء في الاصل المُحير للكون كواقع حقيقي خارج عن الله . و كان خلق العالم من العدم  و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد . (2) كما قال القديس اثناسيوس : أن الكون المخلوق ، بدون الابن الكلمه  ، لا يعتبر في ذاته كافياً ليجعل الله معروفاً لنا . و لكن التأمل الصحيح في الكون إنما يكون في اللوغوس و من خلاله ، إذ هو انشأ الكون و اعطاه نظامه المنطقي ، و فيه ( أي في الكلمه )  يتماسك الكون بثبات معاً . (3)


2 - الخلق شركه :

لتفسير كيفية خلق العالم وخلق الانسان، تستخدم الرواية الأولى من سفر التكوين عبارة "وقال الله...". وتعود تلك العبارة عشر مرات في النص مذكرة بوصايا الله العشر. فكلمة الله في الوصايا تمنح الانسان الخلاص والحياة، وكلمة الله في الخلق تمنح الانسان الوجود والكيان. وكل كلمة وقول علاقة حوار بين أشخاص. فالانسان الذي أتى إلى الوجود بكلمة من الله، إنما هو في صميم كيانه علاقة حوار مع الله، والحوار يفترض الحرية، فالخلق إذاً ليس استعباداً للانسان ولا احتقاراً لكيانه ولا امتهاناً لكرامته.
لقد رفض ماركس وجود الله الخالق لأنه اعتبر ان مثل هذا الوجود ينقص من قيمة الانسان. ولكن ماركس لم يفهم معنى الخلق الصحيح، وما رفضه لله الخالق إلا رفض لصورة خاطئة عن الله الخالق. فبالخلق يعطي الله الانسان الوجود، إلا أن عطاءه هذا ليس عطاء سيّد لعبد ولا عطاء محسن لمستجدي، بل عطاء صديق لصديقه وأب لابنه وحبيب لحبيبه. "ان الله محبة"، والخلق هو أول أعماله التي بها أظهر محبته. يبقى أن يفتح الانسان قلبه لتلك المحبة، لتكون حياته وكلها جواباً على محبته تعالى له. (4)

قال القديس ايرنيئوس :  انه علي الرغم من ان الله مكتفٍ ذاتياً تماماً في الشركه الداخليه التي لكيانه ( كما يقول القديس هيلاري اسقف بواتييه ان الله في ذاته ليس منعزلاً لانه كأب و إبن و روح قدس هو في ذاته شركه ازليه للحب و الوجو الشخصي . [5] ) ، إلا انه لا يريد ان يكون وجوده هو لذاته فقط ، بل بتلقائية و حريه قد احضر العالم إلي الوجود من العدم و أعطاه تكاملاً خاصاً به ، و وضع فيه كائنات مخلوقه عاقله يمكنه ان يهبها من نعمه و يشركها معه في شركة الحب الخاصه به . و مع ان الله متعال بصوره فائقه إلا انه ليس بمعزل عن خليقته ، بل هو حاضر و عامل فيها بلا عائق ، كما انه يتدخل شخصياً بعنايته الالهيه في احداث العالم و في شئون خليقته من البشر . (6)


و يقول الاب تادرس يعقوب مالطي : لم يخلق الله الإنسان لكي يستعرض عظمته وأمجاده، ولا لكي يضيف إلى الطغمات السمائية طغمة من الأرضيين تتعبد له. فهو ليس في حاجةٍ إلى من يمجده أو يخدمه أو يتعبد له. خلق الله الإنسان من التراب، ووهبه نسمة من فيه ليحتضنه بالحب، ويقدم له شركة معه في الأمجاد السماوية. أوجده ليرتفع به إلى الخلود في أمجادٍ لا يُعبر عنها، وهي أمجاد حبه الفائق له.
الإيمان بالله، سواء خلال الناموس الطبيعي، أو التأمل في الطبيعة والمخلوقات المنظورة، أو الناموس الموسوي، أو الإعلانات الإلهية عبر العصور، غايته أن يختبر الإنسان حب الله، ويتذوق عذوبة اهتمامه به، وقد بلغ تلك القمة بالإعلان عن سرّ الثالوث القدوس، هذا الإعلان الذي غايته التمتع بالحب الإلهي. (7)

3 - الخلق نتاج صلاح الله و نعمته :

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : و لماذا الخلق ؟ من فيض صلاحه خلقك . (8)

خلق العالم من العدم  و استمرار وجوده ، يُفهم علي انه نابع من – و قائم علي – محبة الله غير المحدوده ، هذه المحبه التي هي الله ذاته منذ الازل كآب و إبن و روح قدس , و هي التي يريد ان يشرك خليقته فيها . فالخلق مثله مثل الفداء ، كان عملاً من اعمال نعمة الله المحضه التي تعلو علي الشرح ، و التي ظهرت في ابنه المتجسد . (9)


و كان القديس ايرينيئوس قد وجه الانتباه الي تعليم افلاطون الذي في رده علي سؤال : لماذا خلق الله العالم ؟ قد اشار الي صلاح الله الذي بلا حسد ، و الذي بدلاً من ان يحتفظ بصلاحه لنفسه ، كون العالم لكي يعكس من خلاله صلاحه و نظامه الخاص . (10)  . و كما يقول غريغوريوس النيزنزي : كان يجب أن يُسكب الصلاح وينتشر خارج ذاته، لكى يكثر الذين ينالون من إحسانه . (11)

و يقول ايضاً يوحنا الدمشقي : إذ كان الله صالحا و فائق الصلاح , لم يكتف بمشاهدته ذاته , بل ارتضي بدافع فائق من صلاحه أن يكون من يحسن اليهم و يشركهم بصلاحه , فأخرج الكل من العدم الي الوجود و خلق ما يري و ما لا يري , جاعلا الانسان مركبا من منظور و غير منظور . انه تعالي قد خلق بفكره , و فكره اضحي عملا بمؤازرة كلمته , و كمل بالروح . (12)


4 - الخلق اله منتج مبدع ( كفنان عظيم ) :

بقولنا ان الله خالق نؤكد أنه فنّان ومبدع وشاعر. فلفظة "خلَق" في اليونانية تعني "أبدع الشعر". فانه قد أبدع الكون كما يبدع الشاعر الشعر.
إلهنا ليس ساحراً يقوم بأعمال سحر وبراعة. انه شاعر يخلق الحياة ويبدع الجمال. انه شاعر ينير كل ما يلمسه بالمجد والبهاء. الشاعر يخلق ما هو نفسه عليه..... الله هو الشاعر الأسمى. لا بدّ لنا لمعرفة شاعر من درس شعره وأعماله. العالِم والفنّان والباحث هم الدارسون لشعر الله. وحصيلة درسهم تنهّدات أعجاب ورهبة أمام روعة عمله. وهذا الإعجاب، وما يرافقه من تنهّدات، هو الطريقة الفضلى لعبادة الله والسجود له. ثم ان من يعاشر شاعراً يتشرّب شعره ويمتلئ منه.

المسيحي يعيش في ألفة إله شاعر. العالِم والفنان والباحث هم اللاعبون الملهمون لألعاب الله والمرنّمون لموسيقاه وشعره. عندما نفكر بالله نفكر به دوماً كشاعر مبدع: "أومن بإله واحد، الخالق الشاعر، مبدع السماء والأرض، كل ما يرى وما لا يرى".  (13)  . لقد نظم الله عدداً لا يحصى من القصائد. نظمٍ قصيدة ودعاها "السماء"، ونظم قصيدة أخرى ودعاها "الأرض"، ونظم أيضا قصائد أخرى دعاها "النجوم" و"الكواكب" و"الماء" و"الحيوان" و"الملاك" و"الشجر" و"الزهر" و"الزرع". كل قصيدة من قصائد الله هي مصدر مفاجأة ومدعاة فرح. كل قصيدة من قصائد الله هي ينبوع مفاجآت توسّع إمكاناتنا وتملأنا إعجاباً وابتهاجاً. (14)


5 - الخلق عمل حب :

في التعبير عن الإيمان المسيحي بالله الخالق نجد صلة وثيقة بين الخلق وأُبوَّة الله. فالإله الذي نؤمن بأنه خلق السماء والأرض ليس الإله المتجبِّر المتسلِّط بل الله الآب. لذلك نعتبر أن الإيمان بالله الخالق هو الإيمان بأن محبة الله هي التي أوجدت الخلائق كلها، وان العالم ليس وليد صدفة بل ثمرة اختيار الله وقصده المحبّ.
لقد أوجز يوحنا الانجيلي فحوى الإيمان المسيحي بقوله: "نحن قد عرفنا المحبة التي لله فينا وآمنّا بها" (1 يو 4: 16). إنّ في أصل الكون وفي أصل الإنسان كائناً محباً من فيض محبته يعطي الوجود لجميع الكائنات.
ان الإيمان بالله الخالق هو نتيجة لقاء بين كشف الله عن ذاته وخبرة الانسان لمحبة الله. وهذا اللقاء نقرأ حكايته في الكتاب المقدّس في كلا العهدَين القديم والجديد. ففي العهد القديم اختبر اليهود محبة الله المخلّص الذي أنقذهم من عبودية مصر، وانطلاقاً من تلك الخبرة راحوا يتأملون في الإله الخالق. فالإله الذي أحبّهم وخلّصهم هو نفسه الإله الذي أحبّهم وخلقهم وخلق الكون بأسره . (15)

و اوضح القيس اثناسيوس :  ان الله خلق كل الاشياء من العدم و انه يريد للبشرية الوجود بسبب محبته للبشر ، تلك التي اظهرها للعالم في يسوع المسيح الكلمه الذاتي المتجسد ، الذي به احضرت كل الاشياء الي الوجود و أُعطيت كياناً واقعياً . و بدلاً من ان يضن الله علي الخليقه بالوجود – كواقع خالج عن ذاته . أحضرها بحريته إلي الوجود بواعز من كرمه المحض لكي ما يغدق عليها حبه . (16)
 و يكمل القديس غريغوريوس النيسي : ثبت لنا خلال المباحثات المنطقية أن كلمة الله (أو الحكمة أو القوة) هو خالق الطبيعة البشرية، لم يكن مُلزمًا تحت ضرورة ما لخلقة الإنسان، لكنه جاء بالإنسان إلى الوجود من أجل فرط محبته له.  (17)


هذا هو في النهاية المفهوم الصحيح للخلق: إن بين الخليقة والله ارتباطاً دائماً، فالكائنات كلها متعلّقة بالله تعلُّقها بمبدإ وجودها ومصدر كيانها.
ان عقيدة الخلق في الإيمان المسيحي لا تقصد تفسير كيفية وجود العالم وكيفية تكوينه. بل جلّ قصدها إظهار معنى وجود العالم والتأكيد أن هذا الوجود يستقيه من الله ينبوع كل وجود ومصدر كل كيان. واذا استطاع العلم يوماً تفسير كيفية تكوين العالم تفسيراً أكيداً ونهائياً -كل التفسيرات التي يعطيها اليوم العلم إنما هي مجرد نظريات قابلة للنقاش- فالإيمان وحده يستطيع اكتشاف العلاقة الحميمة التي تربط هذا العالم بالله.
وتلك العلاقة هي علاقة محبة، فالعالم هو فيض من محبة الله اللامتناهية وعطيّة مجانية من إله العطاء والمحبة. (18)


وليس شئ من النطق يستطيع أن يحد لجة محبتك للبشر. خلقتني إنساناً كمحب للبشر، ولم تكن أنت محتاجاً إلي عبوديتي، بل أنا المحتاج إلي ربوبيتك.من أجل تعطفاتك الجزيلة، كوَنتني أذ لم أكن. ..... لم تدعني معوزاً شيئاً من أعمال كرامتك. أنت الذي جبلتني. ووضعت يدك عليَّ. وكتبت فيَّ صورة سلطانك. ووضعت فيَّ موهبة النطق. وفتحت لي الفردوس لأتنعم. واعطيتني علم معرفتك. أظهرت لي شجرة الحياة. وعرفتني شوكة الموت.
 (القداس الغريغوري).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 -  اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 50 


2 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 .
Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

3 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 134 . Athanasius, con . ar  3.59-62 

4 - اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 98

5 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . Hilary , de syn , 37 ; de trin ., 4 . 21 ; 6 . 12 , 19 ; 7 . 3 , 8 , 39 ; 8 .52 . 

6 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 131 . irenaeus , adv haer ., 2 . 47 . 2 , vol . 1 , pp 367f ; 2 . 6 . 1f , p 382 f ; 4.25 . 1f vol2 , pp. 184f; 4.34 . 1f , pp. 212ff; 4.63.1f , pp 294ff; dem., 3ff , 11f 

7 -  الحب الالهي . للاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتنج . ص 353

8 -  شرح الرساله إلي اهل فيلبي ( في 1 : 30 ) ترجمة أ / نشأت مرجان . إصدار دار النشر الاسقفيه . ص 77

9 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 133 . basil, hex., 1.2;Gregory nyss., or. Cat., 5 ; de an . et res ., mpg 46.9bff; gregor naz., or ., 38.9; 45.5.see also athenagoras, de res ., 12-13 .
Athanasius,de inc ., 1,1ff; con. Ar., 2.14, 44-65 ; 3.43,67;4.33

10 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . irenaeus , adv haer , . 3 . praef . and 41 , vol 2 pp 1ff , ; 4.25.1f,pp 184ff; 4.63 . 1 , p. 294 f; plato, timaeus, 29e-30b . cf. philo, de migr . abr., 32 . 

11 -  القديس غريغوريوس النيزنزي . ثيوفانيا: ميلاد المسيح، ترجمة الدكتور نصحى عبد الشهيد، دكتور جورج عوض، المركز الأرثوذكسى للدراسات الابائية، يناير 2004، ص20.

12 - المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ترجمه عن اليونانيه / الارشمندريت أدريانوس شكور . مترجم عن : migne . P . G  ., t . 94 , vol . 789 – 1228   . ص 89

13 -  اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

14 -  اللاهوت المسيحي و الانسان المُعاصر ج1 . المطران كيرلس سليم بسترس . ص 30

15  -  اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75

16 - الايمان بالثالوث في القرون الاولي . توماس ف تورانس . ترجمة د / عماد موريس . إصدار دار بناريون للنشر . ص 132 . Athanasius , con. Gent ., 41 ; de inc., 3; cf. con ar., 2.29

17 -  القديس غريغوريوس النيسي . الحب الالهي .للاب تادرس يعقوب مالطي . ص  15 . Orat. Cat. 5  ترجمة الدكتورة نورا العجمي

18 - اللاهوت المسيحي و الانسان المعاصر . المطران كيرلس سليم بسترس . ج1 . ص 75

صلاة المسيح . لماذا ؟ في تعليم اباء الكنيسه

في كثير من نصوص الاناجيل نجد ان السيد المسيح قدم صلوات كثيره . فقد  قدم لنا القديس يوحنا صلاة السيد المسيح الوداعية التي تحمل أسرارًا فائقة (يو 17)، كما أبرز الإنجيلي لوقا اهتمام السيد المسيح كقائدٍ لنا بالصلاة في كل الظروف. يصلي أثناء عماده، فانفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس... (لو 3: 21-22). كما صلى قبل اختياره الاثني عشر تلميذًا (لو 6: 12-13)، وصلي قبل أن يسأل تلاميذه: "ماذا يقول الناس إني أنا" (لو 98: 18-29). وصلى قبل أن يتجلى (لو9: 28-29). كما صلى قبل تأسيس سٌر الإفخارستيا (لو22: 19). وأيضًا في لحظة الألم (لو 22: 42-43)، وقبل موته بالجسد (لو 24: 46) قائلاً: "يا أبتاه في يديك استودعك روحي". وحذر تلاميذه من إساءة استخدام الصلاة (لو 18:11، مت 6: 5-8، 7: 21، مر 12: 38). وقدم تسبيح شكر للآب من أجلنا لتمتعنا كأطفالٍ بسطاءٍ بالحكمة المخفية عن الحكماء والفهماء (لو 10: 21). (1)
و للوقت تظهر في ذهننا تساؤلات كثيره : كما قال الهراطقه قديماً ليوحنا ذهبي الفم :  الآن إقتبس النصوص التي تُبين العكس . أي نصوص تبين العكس ؟ نصوص مثل أنه يصلي للآب . إن كان له نفس القدرة و من نفس جوهره و يعمل كل شئ بإقتدار ، فلماذا يُصلي ؟ (2)  فلماذا قدم يسوع هذه الصلوات ؟ هل كان يحتاج للصلاه ؟

لنعرف الاجابه علي هذه الاسئله يجب ان نعود الي معرفة حقيقة سر التجسد كما يقول القديس كيرلس الكبير : أرجوكم أن تنظروا هنا إلى عمق التدبير في الجسد، وإلى سُمو تلك الحكمة التى لا يمكن لكلمات أن تُخبِر بها، ثبِّتوا عليها عين العقل الثاقبة، وإن لم تستطيعوا رؤية جمال السر، فأنتم أيضًا ستقولون: " يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" (رو33:11). (3)

فالتجسد هو ان المسيح  كأدم جديد  جمع البشرية في شخصه و اصبح رأساً جديداً لجنس البشر و لهذا دُعيَّ في الكتاب المقدس بهذه الاسماء :  ادم الاخير ( 1 كو 15 : 45 ) و  البكر ( عب 1 : 6 ، كو 1 : 15 ) و رئيس الكهنة ( عب 2 : 17 / 3 : 1 / 4 : 14 ، 15 / 5 : 1 ، 4 ، 10 / 6 : 20 / 7 : 26 / 8 : 1 ، 3 / 9 : 11 ) و بهذا احتوانا في جسده كما احتوانا ادم الاول إذ هو رأس الخليقة و أدخل الطبيعة البشرية في معرفة الشر و الفساد بالخطيه ، فصار هو رأساً جديداً للبشريه حيث أنه كإله عندما اتحد بالطبيعة البشرية فهو قد اتحد بطبيعة كل شخص و هكذا حملنا جميعاً في ذاته  ، و إذ حملنا في شخصه فكرئيس كهنة حمل خطايانا ليدخل الي قدس الاقداس مرة واحده و يكفر عن أثامنا  كما كان يفعل رئيس الكهنة قديماً ( راجع لاويين 16 : 32 : 34 )

و هكذا يجب ان ننظر إلي كل عمل عمله السيد الرب في تجسده ،  فقد مُسح بالروح القدس ليكون لنا الداله ان يسكن فينا روح الله ايضاً و لا يفارقنا كما كان في العهد القديم ، و تعمد ليقدس لنا طريق المعموديه ، و هكذا ايضاً عندما قام من الاموات رفع لعنة الموت عن الجميع إذ أننا جميعاً متنا فيه و قمنا ايضاً معه ( و هذا ما نشترك فيه في سر المعموديه للدخول في حياة المسيح ) . فكل التجسد هو لاجلنا و لاجل تبرير طبيعتنا البشرية في جسد الكلمه الالهي . كما يقول القديس اثناسيوس : أن ربنا بينما هو " كلمة " الله وابن الله    فإنه قد لبس جسدًا, وصار ابن الإنسان لكي بصيرورته وسيطًا بين الله والناس, فإنه يخدم أمور الله من نحونا ويخدم أمورنا من نحو الله. وعندما قيل عنه إنه يجوع ويبكي ويتعب، ويصرخ إلوي إلوي, وهى آلامنا البشرية، فإنه يأخذها، ويقدمها للآب، متشفعًا عنا، لكى بواسطته وفيه تبطل هذه الآلام . وحينما قال: " دُفع إلىَّ كل سلطان" (مت18:28) و" آخذها" (أنظر يو18:10)   و" لذلك رفعّه الله " (فى9:2). فإن هذه هى الهبات الممنوحة لنا من الله بواسطته. لأن "الكلمة" لم يكن فى احتياج إلى أى شئ فى أى وقت ، كما أنه لم يُخلق . ولم يكن البشر قادرين (بذواتهم) أن يعطوا هذه (الهبات) لأنفسهم، ولكنها أُعطيت لنا بواسطة "الكلمة". لذا وكأنها معطاة له فهى تنتقل إلينا. ولهذا السبب تجسد، حتى بإعطائها له تنتقل إلينا . لأن الإنسان وحده (بدون وسيط) لم يكن مستحقًا أن يأخذ تلك الهبات، و"الكلمة" فى ذاته لم يكن محتاجًا إليها . لذا اتحد "الكلمة" بنا ونقل إلينا السلطان ومجدّنا مجدًا عاليًا .(4) و يكمل قائلاً :  لانه كما أباد الموت بالموت، وبوسائل بشرية أبطل كل ما للإنسان (من ضعفات) هكذا أيضًا بهذا الذي ظهر وكأنه خوف، نزع خوفنا، وأعطى الناس أن لا يعودوا يخافون الموت فيما بعد. (5) و يقول ايضاً : لهذا عندما يُقال إن شيئًا ما قد أُعطى للرب، يجب أن نعرف أنه لم يُعطَ له كمحتاج إليه، بل أُعطى للإنسان نفسه بواسطة "الكلمة". لأن كل من يتشفع من أجل آخر ينال هو نفسه الهبة، ليس كمحتاج إليها، بل لحساب من يتشفع لأجله. وكما أن الرب يأخذ ضعفاتنا، دون أن يكون ضعيفًا ، ويجوع دون أن يكون محتاجًا للأكل. وهو يأخذ ضعفاتنا لكى يلاشيها. كما أنه ـ فى مقابل ضعفاتنا ـ يقبل أيضًا الهبات التى من الله، حتى أن الإنسان الذى يتحد به، يمكنه أن يشترك فى هذه الهبات. ولذلك يقول الرب" كل ما أعطيتنى.. قد أعطيتهم". وأيضًا " من أجلهم أنا أسأل " (يو7:17ـ9) لأنه كان يسأل لأجلنا، أخذًا لنفسه ما هو لنا، ومعطيًا لنا ما أخذه. لأنه عندما اتحد الكلمة بالإنسان نفسه، فإن الآب من أجل ابنه قد أنعم على الإنسان بأن يُمجد، وأن يُدفع له كل سلطان، وما شابه ذلك. لذا نُسبت كل هذه الأمور "للكلمة" نفسه، لكى ننال بواسطته كل هذه الأمور التى أُعطيت له. فكما أن "الكلمة" صار إنسانًا لأجلنا، هكذا نحن نُرفَّع لأجله. فإن كان لأجلنا قد وضع نفسه (اتضع)، فليس من غير المعقول إذن أن يُقال إنه قد مُجد ورُفع لأجلنا، لهذا " أعطاه " (الآب) أى " أعطانا من أجله هو"، وقد "رفَّعه" أى " رفَّعنا نحن فيه ". "والكلمة" نفسه، حينما نتمجد ونأخذ وننال معونة، كأنه هو نفسه الذى مُجِّدَ وأخذ ونال معونة، يقدم الشكر للآب، ناسبًا ما لنا لنفسه قائلاً : " كل ما أعطيتنى .. قد أعطيتهم " (يو8،7:17). (6)


و هكذا ايضاً قدم السيد بالصلاة بنا و عنا ، فصلي بطبيعتنا متشفعاً لنا عند الآب و لكي تُسمع ايضاً صلواتنا فيه . و يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن صلاة المسيح انها كانت للاسباب الاتيه :
1 – تجسده : أنه تسربل بالجسد و أراد أن كل البشر في تلك الايام و ما يليها من عصور أن يؤمنوا أن ما رأوه لم يكن مجَّرد خيال أو هيئه ظاهريه بل طبيعة حقيقيه . (7) ، ألا تزال تسمع حتي اليوم أن ماركيان و ماني و فالنتيان و آخرين كثيرين أنكروا تدبير الفداء في الجسد ؟ ... أنه تصرف هكذا ليبرهن و يؤمّن علي تدبير الفداء . إن إبليس سعي بكل جهده لنزع هذا الإيمان عن البشر ، لأنه علِمَ أنه إذا ما لاشي إيمان الانسان بتدبير الفداء سيتلاشي معه كل الاشياء التي نتمسك بها علي انها حقيقة  . (8)
2 – ليعلمنا الاتضاع : إنه أراد ممن يسمعونه أن يكونوا متضعين في قلوبهم و أذهانهم ، لو كان شخص ما يُعلِم عن إتضاع القلب ، إنه يفعل هذا ( أي يعلمهم ) ليس فقط بما يقوله ، بل ايضاً بما يفعله . إنه متضع في القول و الفعل . ( تعلموا مني لاني وديع و متواضع القلب .. مت 11 : 29 ) (9)
3 – تمايز أقانيم الثالوث القدوس : لكي يمنعنا من السقوط أبداً في الاعتقاد أنه لا يوجد غلا إقنوماً واحداً في الله بسبب التقارب فائق الوصف بين الاقانيم الثلاثه . (10)

و هكذا يمكننا ان نوضح ان صلاة السيد المسيح كانت :
1 – نيابة عنا كرئيس كهنة و شفيع .
2 – واضعاً لنا مثالاً نتعلم منه .
3 - نحن كنا فيه نصلي و نصرخ .
4  - لاجلنا و لاجل خلاصنا .



1 - نيابة عنا كرئيس كهنة و شفيع :

كما يقول القديس كيرلس الكبير : انه يُصلي ليس كمن يعوزه شئ إذ هو الاله ، بل بصفته رئيس كهنة يرفع التوسلات التي من اجلنا .  (11) .

و يقول العالم دونالد جوثري :  رئيس الكهنه اساساً هو ممثل للإنسان ، إنه مأخوذ من الناس فلأنه متخذ طبيعة الناس يستطيع ان يعمل بأسمهم و يتضرع نيابة عنهم . كان هذا امراً اساسياً في كهنوت هرون .  (12)

كل صلاه صلاها المُخلص ، انما صلاها بالنيابة عن طبيعة الانسان . اثناسيوس . (13)

من أجلنا قدم التشكرات لئلا نظن أن الآب والابن أقنوم واحد بعينه عندما نسمع عن إتمام ذات العمل بواسطة الآب والابن. لهذا فلكي يظهر لنا أن رد تشكراته ليست ضريبة يلتزم بها من هو في عجز عن السلطان، بل بالعكس أنه ابن الله الذي ينسب لنفسه دومًا السلطان الإلهي، لذلك صرخ: "لعازر هلم خارجًا". هنا بالتأكيد أمر لا صلاة. القديس جيروم (14)

يصلي المسيح عنا، ويصلي فينا، ونصلي إليه. يصلي عنا بكونه كاهننا، ويصلى فينا بكونه رأسنا، ونصلي إليه بكونه إلهنا، لهذا نتعرف على صوتنا فيه، ونتعرف على صوته فينا. القدّيس أغسطينوس (15)

إنه ليس عبدًا ينطرح أمام الآب شافعًا فينا. فإن مثل هذه الفكرة خاصة بالرقيق وغير لائقة بالروح! إنه لا يليق بالآب أن يطلب ذلك، وأيضًا بالابن أن يخضع لها، ولا يحق لنا أن نفكر بمثل هذه الأمور بالنسبة لله. ولكن ما تألم به كإنسانٍ، فإنه إذ هو الكلمة والمشير يطلب من الله أن يطيل أناته علينا. أظن هذا هو معنى شفاعته .القديس غريغوريوس النزينزي . (16)



وإن غاب عن أعيننا، فالمسيح رأسنا مرتبط بنا بالحب. وحيث المسيح الكلي Totus Christus هو الرأس والجسد، لنصغِ في المزمور إلى صوت الرأس لكي نسمع أيضًا الجسم يتكلم. (17) . إن كان هو الرأس، فإننا نحن الأعضاء، كنيسته الكلية التي تنتشر عبر العالم، أي جسده، الذي هو رأسه. ليس فقط المؤمنون الذين على الأرض الآن، والذين سبقونا والقادمون فيما بعد إلى نهاية الزمن، يتصلون الواحد والكل في جسده، وهو رأس هذا الجسد، الذي صعد إلى السماء...  يمكننا القول إن صوته هو صوتنا، وأيضًا صوتنا هو صوته. لنفهم أن المسيح يتكلم فينا . (18) القديس أغسطينوس

و يختم ذهبي الفم : لكن لمن قد تضرع ؟ تضرع نيابة عن كل من أمن به . (19)


2 – واضعاً مثالاً لنا لنتعلم منه  :

تعالوا انظروا مخلصنا محب البشر الصالح . صنع فعل الصوم مع عظم تواضعه فوق الجبال العاليه بانفراد جسدي و علمنا المسير لكي نسير مثله .. ذكصولوجية الصوم المقدس .

يقول كيرلس السكندري : ما يقوله المسيح هنا ، ينبغي ان يكون نموذج الصلاة بالنسبة لنا . لانه كان من الضروري لا ان يأتي شيخ او رسول ، بل ان يظهر المسيح نفسه . ليكون قائدنا و مرشدنا في كل صلاح ، و في الطريق الذي يؤدي إلي الله . لإننا دُعينا – و هكذا نحن بالحق – كما يقول النبي : متعلمين من الله . (20)
و يقول في موضع اخر : وكان يحث تلاميذه أن يتصرَّفوا بما يناسب هذا الظرف (العصيب) بقوله لهم: " اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة". وحتى لا يكون تعليمه بالكلام فقط، صار هو نفسه مثالاً لِمَا ينبغي أن يفعلوه هُم، فقد انفصل عنهم قليلاً، نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلَّى .  (21)

و يقول ايضاً : كل ما فعله المسيح، فعله لأجل بنياننا، ولأجل منفعة أولئك الذين يؤمنون به، وعن طريق تعريفنا بسلوكه الخاص كنموذج للحياة الروحية، فإنه جعلنا عابدين حقيقيين، لذلك دعنا نرى في النموذج والمثال الذي تُزودنا به أعمال المسيح، نرى الطريقة التي ينبغي أن نقدم بها صلواتنا إلى الله. (22)


3 - نحن كنا فيه نصلي و نصرخ :

نحن الذين كنا فيه نصلي بصراخ شديد و دموع و نطلب ان يبطل سلطان الموت . كيرلس السكندري  (23)

و يقول الاب متي المسكين : إن هذه الصرخات هي اصلاً و في الحقيقه صرخاتنا التي صرخها من أجلنا , و الدموع هي دموعنا و قد كان يبكي من اجلنا ، و التوسلات هي توسلاتنا توسلها بإسمنا . لأنه إبن الله فقد صمم ان يحمل كل اوجاعنا ، فتحملها في جسده الذي هو اصلاً جسدنا الذي لبسه عليه ليظهر به كإنسان خاطئ امام الله ابيه لينال تعطفاته علي جنسنا . (24)

نحن الذين كنا فيه – كما في مبدء ثان  لجنسنا – نصلي بصراخ شديد و دموع و نطلب ان يبطل سلطان الموت . (25)


4 – لاجلنا و لاجل خلاصنا :

قدم طلبات و تضرعات للآب لكي يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك انت ايضاً . كيرلس السكندري . (26)
و يقول في موضع اخر : لقد بكي بشرياً لكي يُجفف دموعك ... و قدم طلبات و تضرعات للآب لكي يجعل اذان الآب صاغيه لصلواتك انت ايضاً . (27)
و يقول ايضاً : لكي يجعل صلواتنا نحن ايضاً تصير مقبوله لدي الآب ، لذلك قد وضع بنفسه بدايه جديده لفعل الصلاه ، لكي يستميل بذلك أذن الآب لصراخ الطبيعه البشريه . (28)

و يقول امبرسيوس : ولذلك، أخذ مشيئتى لنفسه، أخذ أحزانى وبثقة أدعوها أحزانى، لأننى أكرز بصليبه. إن ما هو خاص بى هو المشيئة التى سمّاها مشيئته، لأنه كإنسان هو حمل أحزانى، وكإنسان تكلَّم ولذلك قال: " لا مشيئتى بل مشيئتك". الأحزان هى أحزانى، وما هو خاص بى والحِمل الثقيل الذى حمله بسبب حزنى هو حملى أنا، لأنه لا يوجد مًن يتهلّل عندما يكون على حافة الموت. هو يتألم معى ويتألم لأجلى، فهو حزن لأجلى. وتثقل لأجلى. لذلك فهو حزن بدلاً منى وحزن فىّ، هو الذى لم يكن هناك سبب يجعله يحزن لأجل نفسه. (29)
و يكمل قائلاً : دعنا نذكِّر أنفسنا بمنفعة الإيمان الصحيح. إنه نافع لى أن أعرف أنه مِن أجلى حَمَل المسيح ضعفاتى، أخضع نفسه لمشاعر جسدى، ولأجلى، أى لأجل كل إنسان، صار خطيَّة ولعنة ، ولأجلى وفىَّ تذلَّل وصار خاضعًا، ولأجلى صار حملاً وكرمة وصخرة  وعبدًا، وابن الأَمَة  (يقصد الأُمة اليهودية والعذراء)، (قاصدًا) ألاّ يعرف يوم الدينونة ، ولأجلى لا يعرف اليوم ولا الساعة . لأنه كيف يمكنه، وهو الذى صنع الأيام والأزمنة أن يكون غير عارف لليوم (الدينونة)؟ كيف لا يمكنه أن يعرف اليوم وهو الذى أعلن زمن الدينونة الآتية وسببها ؟ وهو قد صار لعنة، إذن، لا من جهة ألوهيته وإنما من جهة جسده، لأنه مكتوب: " ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة" (تث23:21، غل13:3)، ولذلك فإنه فى الجسد أى بعد التجسد قد عُلِّق، ولذلك فإن هذا الذى حَمَل لعناتنا صار لعنة . إنه بكى، حتى لا يطول بكاؤك أيها الإنسان، واحتَمَلَ الإهانة حتى لا تحزن قِبالة الإساءة التى تصيبك . (المقصود هنا الأحزان التى نجوزها خلال وجودنا فى العالم بسبب قسوة البشر. ) (30)   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - الحب الالهي . الاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس بالاسكندريه . ص 595


2 - يوحنا ذهبي الفم . مساو للآب في الجوهر . مُترجم عن the fathers of the church . vol . 72 . ترجمة نشأت مرجان . إصدار دار النشر الاسقفيه . ص 17

3 - تفسير انجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 711

4 - ضد الاريوسيين ، ترجمة د / وهيب قزمان بولس . مراجعة و إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه  . مقاله 4 . ف 6 . ص 15

5 - ضد الاريوسيين المقاله الثالثه فقره 57 . ترجمة د / مجدي وهبه و د / نصحي عبد الشهيد مراجعة د / جوزيف موريس فلتس . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه

6 - ضد الاريوسيين ، مرجع سابق  . مقاله4 . ف 6 ، 7  . ص 16 ، 17

7 - يوحنا ذهبي الفم . مساو للآب في الجوهر . مُترجم عن the fathers of the church . vol . 72 . ترجمة نشأت مرجان . إصدار دار النشر الاسقفيه . ص 18

8 - مساوِ للآب في الجوهر  مرجع سابق . ص 19

9 - مساوٍ للآب في الجوهر . مرجع سابق . ص 23

10 - مساوٍ للآب في الجوهر . مرجع سابق ص 23

11 -  المسيح في صلاته و صومه من اجلنا في تعليم القديسيين اثناسيوس الرسولي و كيرلس السكندري . دار مجلة مرقس . ص 40 , 41 . P.G , 72 : 417

12 - التفسير الحديث للكتاب المقدس . الرساله إلي العبرانيين . تأليف / دونالد جوثري . ص 116

13  - المسيح في صلاته و صومه من اجلنا في تعليم القديسيين اثناسيوس الرسولي و كيرلس السكندري . دار مجلة مرقس . ص 33

14 - الحب الالهي . الاب تادرس يعقوب ، ص 597 . Of the Christian Faith, 4:6:72.

15 - الحب الالهي . ص 551

16 - Theological Orations 30:14 . الحب الالهي . ص 551

17 - In Ps 56 PL 36:662  

18 - Enarr. in Psalm 62:2 PL 36: 748 f . الحب الالهي . ص  552

19 - تفسير رسالة بولس الرسول إلي العبرانيين . للقديس يوحنا ذهبي الفم . ترجمة د / سعيد حكيم يعقوب . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 140

20  - شرح انجيل يوحنا . المجلد الثاني . للقديس كيرلس السكندري . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 352

21 - تفسير انجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 715

22 - انجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . ص 121 , 122 , P.G 72 : 580

23 - المسيح في صلاته و صومه من اجلنا في تعليم القديسيين اثناسيوس الرسولي و كيرلس السكندري . دار مجلة مرقس . ص 33

24 - الاب متي المسكين . شرح و تفسير الرساله الي العبرانيين . ص 377 .

25 - P.G. 76 , 1392 A  . كيرلس السكندري. الاب متي الرساله الي العبرانيين . . ص 377

26 - المسيح في صلاته و صومه من اجلنا في تعليم القديسيين اثناسيوس الرسولي و كيرلس السكندري . دار مجلة مرقس . ص 41 . رداً علي ثيئودوريت اسقف قورش بخصوص الحرم العاشر . P.G , 76 : 441

27 - P.G 76 , 441   . كيرلس السكندري. الاب متي الرساله الي العبرانيين . . ص 377

28 - P.G . 76 , 1392 A   . كيرلس السكندري . الاب متي الرساله الي العبرانيين . ص 377

29 - القديس امبرسيوس . شرح الايمان المسيحي . الكتاب الثاني . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه . فقره 53. ص 107

30 - شرح الايمان المسيحي . الكتاب الثاني . مرجع سابق . فقرات 93 ، 94 . ص 124 , 125

قيامة المسيا لإجلنا في فكر الاباء

بعد ان عبرنا مع المسيح في مر اسبوع الآلام و حزن الآلام الصليب اتينا معه إلي مجد القيامه , تكملة عمل الفداء و غايته . فقد كان هدف المُخلص ان يمحي الآثر المميت الذي نتج عن خطية ابوينا الاوليين أي الموت الذي ساد علي جنس البشر و الفساد الذي انجذب البشر نحوه بعيداً عن صلاح الله المُحب كما يقول اثناسيوس الرسولي : [ فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بالجسد، الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يبيد الموت منهم كما تُبيد النار القش.  ] (1) و لهذا قد تجسد الرب لكي يكون له جسد بشري قابل للموت هو جسده الخاص , و لاجل الحياة الالهيه التي في ذلك الجسد يموت الموت بهذه الحياه إذ لم يكن ممكناً ان يمسك الموت الحياه ( اع 2 : 24 ) و لا ان تدرك الظلمه النور ( يو 1 : 5 ) و يعلق علي ذلك القديس غريغوريوس النيسي قائلاً : [ المُحتقر صار ممجداً , و الجسد القابل للفساد و الموت قام ممجداً منتصراً علي الموت ... الآن لم يستطع الموت ان يمسك ذاك الذي يمسك كل شئ بكلمته ] (2) و كما يقول اثناسيوس : [ فإن كلمة الله الذي بدون جسد قد لبس الجسد لكى لا يعود الموت والفساد يُرهب الجسد لأنه قد لبس الحياة ثوبا وهكذا أبيد منه الفساد الذي كان فيه. ] (3)  و يقول في موضع اخر : [ لذا فإن كلمة الله المحب للبشر لبس ـ بمشيئة الآب ـ الجسد المخلوق لكى يُحيّى بدم نفسه هذا الجسد الذى أماته الإنسان الأول بسبب تعدّيه، كما قال الرسول:" وكرّس لنا طريقًا حيًا حديثًا بالحجاب أى جسده". وهو ما شار إليه فى موضع آخر حينما قال: " إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكلّ قد صار جديدًا" . فإن كان كلّ شئ قد صار خليقة جديدة فمن الضرورى أن يكون هناك شخص هو بكر هذه الخليقة. ولا يمكن أن يكون هو الإنسان الضعيف الترابى .. ] (4) , و في هذا ايضاً يقول كيرلس عمود الدين : [ إن كلمة الله حي إلي الابد , و بحسب طبيعته هو الحياه ذاتها , و لكنه عندما اخلي ذاته , و وضع نفسه ليصير مثلنا , فإنه ذاق الموت , و لكنه برهن علي موت الموت , لإنه قام من الموت ليصير هو الطريق الذي به ليس هو فقط بل نحن ايضاً نعود إلي عدم الفساد . ليت لا احد يبحث عن – هذا الحي إلي الأبد – بين الاموات . ] (5) و يقول ايضاً : [فالموت قد قُهر و الطبيعه البشريه قد خلعت عنها الفساد في شخصه كباكوه ] (6)

فأصبح الله الكلمه بتجسده بكر وسط الخليقه او بحسب تعبير كتابي آخر هو آدم الجديد و المقصود من كلا التعبيريين انه اصبح رأس جديد للخليقه فقد زرع ادم في الخليقه التوجه نحو الفساد و الشر و معرفة طريق البعد عن الله و الإنجذاب نحوه , بينما جاء المسيح كرأس آخر او بدايه جديده لجنس البشر به نبتعد عن الفساد و لو جزئياً بقبول عمل و سُكني الروح و المسيح فينا كهيكل إلهي و كأبناء الله نشتاق إليه و ننظر نحوه فلا نري غيره و لا يشبعنا بعد اي شهوة في الخطيه بل يشبعنا فقط الملء من روحه و سكناه داخلنا , هذه العطيه التي كان المفتاح لها هو مجد القيامه و مدخلها الصعود العظيم و تحققت في علية اورشليم و انسكبت من خلالها بالمعموديه المقدسه إلي باقي الجنس البشري .

و لقب الإبن البكر لا يشير إلي ان الابن مخلوق بل قد قيل كما قلنا لاجل انه تجسد ليصبح رأساً جديداً لجنس البشر بدل الرأس الاول آدم و في ذلك يقول القديس اثناسيوس الرسولي : [ أما لفظ "البكر" فيشير إلى التنازل إلى الخليقة، لأنه بسببها سُمى بكرًا... لأنه لو كان "بكرًا" لما كان "وحيدًا" لأنه غير ممكن أن يكون هو نفسه "وحيدًا" و "بكرًا" إلا إذا كان يشير إلى أمرين مختلفين. فهو "الابن الوحيد " بسبب الولادة من الآب، ولكنه يسمى "بكرًا" لسبب التنازل إلى الخليقة وجعله الكثيرين أخوة له. .. إذن فهو لم يُدعَ "بكرًا" بسبب كونه من الآب، بل بسبب أن الخليقة قد صارت به. وكما كان الابن نفسه كائنًا قبل الخليقة وهو الذى به قد صارت الخليقة، هكذا أيضًا فإنه قبل أن يُسمى "بكر كل الخليقة" كان هو الكلمة ذاته عند الله.  ] (7)


و قد حدثت القيامه بقدرة ابن الله الالهيه لانه هو الله الغير محدود و الغير محوي اتحد بجسده الخاص منذ اللحظه الاولي للميلاد البتولي و  منذ ذلك الوقت لم ينفصل الله الكلمه عن هذا الجسد البشري ( الإنسان ) المكون من نفس و جسد , حتي في وقت موت المسيح بالجسد فقد ظل الله لانه غير محدود ( لا يخلو منه مكان ) و قادرعلي كل شئ متصلاً بالجسد الراقد في القبر و النفس التي نزلت بمشيئة الله الي الجحيم لتبشر الذين رقدوا علي رجاء مجئ المُخلص . و لان انفصالاً بين الجسد و النفس عن الله لم يحدث فقد أعاد الله النفس إلي الجسد مرةَ اُخري بدون صلاه و لا دعاء و لا شفاعة من آخر كما قام كل الآخرين الذين ذكرهم الكتاب في العهدين . ذلك كما يُعلمنا القديس غريغوريوس النيسي قائلاً : [ بعدما أعاد الله بقوته صياغة الإنسان كله في شخصه، وجعله شريكًا للطبيعة الإلهية، لم ينفصل في وقت الآلام بحسب التدبير عن هذا العنصر الآخر (أى الجسد) الذي اتحد به مرة واحدة، لأن هبات الله ودعوته هى بلا ندامة (رو29:11). فإن كانت الألوهية بإرادتها فصلت النفس عن الجسد، إلاّ أنها أوضحت أنها هى ذاتها بقيت في النفس والجسد. في الجسد الذي يعتريه الفساد بالموت كما جاء بالمزمور " لأنك لن تترك نفسي في الهاوية ولا تدع قدوسك يرى فسادًا" (أع27:2)، وهكذا أبطل ذاك الذي له سلطان الموت (عب14:1)؛ بينما بالنفس فتح الطريق للص للدخول إلى الفردوس. وهذا الأمران تحققا في آن واحد. أى أن الألوهية تُحقق الصلاح للاثنين، فقد تحقق بطلان الموت بعدم فساد الجسد، وبعودة النفس إلى موضعها، يُفتح الطريق لعودة البشر مرة اخرى إلى الفردوس. ] (8) و يقول القديس يوحنا الدمشقي : [ و إذا كانت النفس قد انفصلت عن الجسد إنفصالاً مكانياً , فقد ظلت مُتحدة به إتحاداً إقنومياً بواسطة الكلمه ] (9)

و هكذا فكل ما عمله و علمه الرب منذ ان اتخذ جسداً حسب التدبير الالهي هو لاجلنا نحن فتجسده وميلاده و عماده و صلبه و موته و قيامته و صعوده جميعها لاجل ان نأخذ نحن العتق من الفساد و يحيا فينا المسيح و يسكن فينا الروح و نأخذ برهان القيامه و الصعود الي يمين الآب و التمتع بإشراق و مجد اللاهوت الذي لا تشبع منه النفس . و يقول القديس مقاريوس [ لأن مجئ الرب كان كله لأجل الإنسان ـ الإنسان الذى كان مطروحًا ميتًا فى قبر الظلمة والخطية والروح النجس والقوات الشريرة ـ لكى يقيم الإنسان ويحييه فى هذه الحياة الحاضرة ويطهره من كل سواد وظلمة، وينيره بنوره الخاص، ويُلبسه ثوبه الخاص، أى الثوب السماوى الذى هو ثوب اللاهوت. ] (10)

فبالمسيح كبكر مقام لاجلنا من الاموات ينكشف لنا ايضاً سر احد الاعياد اليهوديه و هو عيد الباكورات و يقام هذا العيد في السادس عشر من شهر نيسان , اي بعد عيدي الفصح و الفطير (11) . و هذا العيد جاء ذكره في العهد القديم كرمز لقيامة المسيح كالأتي : [ وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: 10«كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: مَتَى جِئْتُمْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا أُعْطِيكُمْ وَحَصَدْتُمْ حَصِيدَهَا، تَأْتُونَ بِحُزْمَةِ أَوَّلِ حَصِيدِكُمْ إِلَى الْكَاهِنِ. 11فَيُرَدِّدُ الْحُزْمَةَ أَمَامَ الرَّبِّ لِلرِّضَا عَنْكُمْ. فِي غَدِ السَّبْتِ يُرَدِّدُهَا الْكَاهِنُ. 12وَتَعْمَلُونَ يَوْمَ تَرْدِيدِكُمُ الْحُزْمَةَ خَرُوفًا صَحِيحًا حَوْلِيًّا مُحْرَقَةً لِلرَّبِّ. 13وَتَقْدِمَتَهُ عُشْرَيْنِ مِنْ دَقِيق مَلْتُوتٍ بِزَيْتٍ، وَقُودًا لِلرَّبِّ رَائِحَةَ سَرُورٍ، وَسَكِيبَهُ رُبْعَ الْهِينِ مِنْ خَمْرٍ. 14وَخُبْزًا وَفَرِيكًا وَسَوِيقًا لاَ تَأْكُلُوا إِلَى هذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ، إِلَى أَنْ تَأْتُوا بِقُرْبَانِ إِلهِكُمْ، فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً فِي أَجْيَالِكُمْ فِي جَمِيعِ مَسَاكِنِكُمْ. ] ( لا 23 : 9 – 11 ) . و المعني انه يقدم كل شخص باكورة او اول ما يحصده من غلة و يقدمه للرب و طالما قبله الرب فهذا ضمان له ان بقية حصاده سيأتي ببركة و مضمون ايضاً , و هذا ما حدث في قيامة المسيح إذ هو كباكورة قام من الاموات و قبل الله ان يقام جسده البشري الخاص فاعطانا ضماناً بأننا ايضاً كمثل الباكورة سيقبلنا الرب لنقوم مثله .


و هذه هي القيامه التي بها آخذنا القدره و البرهان علي قيامتنا في المسيح في اليوم الاخير لحياة جديده معه كما يقول القديس مقاريوس : [  فهكذا ستتمجد أجساد القديسين وتضىء مثل البرق. فالمجد الذى كان فى داخل المسيح فاض على جسده وأضاء، وبنفس هذه الطريقة ما يحدث فى القديسين، فإن قوة المسيح التى فى داخلهم ستنسكب فى ذلك اليوم على أجسادهم من الخارج. فإنهم منذ الآن يشتركون فى جوهره وطبيعته فى عقولهم، لأنه مكتوب " الذى يقدس والذين يتقدسون جميعهم من واحد" (عب11:2). وأيضا " وأنا قد أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى" (يو22:17). وكما أن مصابيحًا كثيرة توقد من نار واحدة هكذا أجساد القديسين إذ هى أعضاء المسيح فإنها بالضرورة تصير مثل المسيح نفسه وليس شيئًا آخر. ] (12) .  و يقول اثناسيوس : [ والآن إذ قد مات مخلّص الجميع نيابة عنا فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت (بحكم) الموت الذى كان سابقًا حسب وعيد الناموس لأن هذا الحكم قد أُبطل؛ وبما أن الفساد قد بَطُل وأُبيدَ بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحل فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل . ] (13) و يقول ايضاً : [ وهناك اعتبارات أخرى تجعل المرء يدرك لماذا كان يليق بجسد الرب أن يتمّم هذه الغاية. لأن الرب كان مهتمًا بصفة خاصة بقيامة الجسد التى كان مزمعًا أن يتممها، إذ أنها دليل أمام الجميع على انتصاره على الموت، ولكى يؤكد للكل أنه أزال الفساد، وأنه منح أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين فصاعدًا. وكضمان وبرهان على القيامة المُعَدّة  للجميع فقد حفظ جسده بغير فساد. ] (14)

كل هذا المجد قد صنعه لنا المُخلص و اعده من أجلنا , فلنستمع إذا لوصية القديس مقاريوس : [ فلنطلب إذن من الله ونتوسل إليه أن يلبسنا لباس الخلاص وهو الرب يسوع المسيح، النور الفائق الوصف الذى إذا لبسته النفوس لا تخلعه قط، بل تتمجد أجسادهم أيضا فى القيامة بمجد ذلك النور الذى تلبسه النفوس الأمينة الفاضلة منذ الآن حسب قول الرسول " إن ذلك الذى أقام المسيح من بين الأموات سيحيى أجسادهم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم" (رو11:8). فالمجد لمراحمه المتعطفة ولرأفته التى تفوق كل وصف وكل تعبير. ] (15)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 -  تجسد الكلمه 8 : 4 .. ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . ص 23


2 - قيامة المسيح و إشراق النور الالهي للقديس غريغوريوس
النيسي . ترجمة عن اليونانيه . د / سعيد حكيم يعقوب .. ص 19

3 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 44 : 8 . ص 141

4 - ضد الاريوسيين . ترجمة أ/ صموئيل كامل , د/ نصحي عبد الشهيد . مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس .  2 , 21: 65 .. المقاله الثانيه . ص 122

5 - تفسير انجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري . ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه ص 754

6 - مرجع سابق ص 759

7 - ضد الاريوسيين . ترجمة أ/ صموئيل كامل , د/ نصحي عبد الشهيد . مراجعة د/ جوزيف موريس فلتس .  2 , 21:  62 , 63 .. المقاله الثانيه . ص 117 , 118

8 - و قام في اليوم الثالث . للقديس غريغوريوس النيسي . ترجمة د / سعيد حكيم يعقوب . ص 22 , 23

9 - المائة مقاله في الإيمان الارثوذكسي . للقديس يوحنا الدمشقي . ص 208

10 - عظه 34 : 2 . عظات القديس مقاريوس . ص 298

11 - و هو الوقت الذي قام فيه المسيح من الاموات حيث قدم نفسه في الفصح و كان جسده في القبر في عيد الفطير و قام من الاموات في عيد الباكورات , بل ان كل الاعياد التي اعطاها الرب فريضة لبني إسرائيل هي إشاره لمجئ المسيح و عمله الخلاصي و قبول الروح القدس في حياة الكنيسه . لقراءة المزيد في هذا الامر راجع المسيح في الاعياد اليهوديه للراهب القمص رافائيل البرموسي
12 - عظات القديس مقاريوس .. عظه 15 : 38 , ترجمة د/ نصحي عبد الشهيد . ص 158

13 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 21 : 1 . ص 64

14 - تجسد الكلمه . ترجمة د / جوزيف موريس فلتس . اصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه 22 : 4 . ص 69

15 - عظات القديس مقاريوس . مرجع سابق .. عظه 20 : 3 . ص 204

الجحيم ( جهنم ) في التعلم المسيحي . رؤيه كتابيه و ابائيه

كثيراً ما سمعت من ملحدين و مؤمنين عن الجحيم بشكل يتنافي مع ما تعلمه المسيحيه عن الله المُحب و يتلخص تعليمهم في : ( أن الجحيم هو مكان عقاب الاشرار و ان الله سيعاقب هؤلاء الذين لم يستمعوا لوصاياه بإدخالهم في حفره كبيره ترتفع منها ألسنة اللهب الحارق الذي سيحترقون به كل لحظه إلي الابد بدون توقف ) . و حتي ان هذا الشرح البعيد عن الله المُحب و المُخلِص للبشريه صار هو مصدر السخريه و الورقه الرابحه عند كل ملحد فيتفاخرون قائلين : ( من هذا الاله الذي يحرق شخصاً لانه لم يستطع أن يحبه ، أنا كإنسان لا استطيع ان احرق اصبع احد لانه لم يحبني او حتي لم يستمع إليَّ ، و ما الفائده من ان اعاقب علي افعال وقتيه زمنيه بعقاب ابدي لا ينتهي . حتي ان هذا الاله لا يدعني احترق و انتهي بل كلما احترق يصنع لي جلداً جديداً لكي لا استنفذ من التألم من العقاب . أي إله هذا و عن أي محبة تتحدثون ) .

و في حقيقة الامر فإن الجانبان مُخطئان لانهم لم يعرفوا الله في حقيقته و المعني المقصود من الجحيم بحسب الكتاب المقدس و الفهم المسيحي له منذ القرون الاولي ، حتي قبل ان يظهر الالحاد و اي نقد للجحيم في تلك الازمنه .

أصل كلمة جهنم التي استخدمها الكتاب المقدس للتعبير عن مكان وجود الاشرار :

تخبرنا قواميس الكتاب المقدس ان اصل كلمة جهنم هي ( وادي هنوم ) و جاء عنه في قاموس الكتاب المقدس : [هو اسم الوادي الذي يمر إلى الجنوب والغرب من مدينة القدس: وادي هنوم ( يش 15: 18 ونح 11: 30، أو وادي ابن هنوم ( يش 15: 8 و 18: 16 )، أو وادي بني هنوم ( 2 مل 23: 10 ) وكان لهذا الوادي أهمية كبيرة. فقد كان الحد الفاصل بين نصيبي كل من يهوذا وبنيامين. وعلى الحرف الجنوبي المشرف عليه بني سليمان مرتفعة لكموش إله موآب ( 1 مل 11: 7 ). وفي الوادي أجاز احاز ومنسى أولادهما بالنار ( 2 مل 16: 3 و 2 أخبار 28: 3 و 33: 6 ). وابطل يوشيا عباده مولك حيث كان الرجل يعبر ابنه أو ابنته في النار في الوادي حينما نجس الوادي والمرتفعات بعظام الأموات وبكسر التماثيل ( 2 مل 23: 10-14 و 2 أخبار 34: 4 و 5 ). ثم جعل الوادي مزبلة القدس ومكان الضباب بلوعتها. وهكذا استمر احتقار المكان حتى سمى اليهود مكان الهلاك على اسمه ومن هنا ولدت كلمة جهنم، أي وادي هنوم ( مت 5: 22 و 10: 28 و 23: 15 ). حيث البكاء وصرير الأسنان، وحيث النار الأبدية والعقاب الدائم للخطاة ( مت 25: 46 ومر 9: 43- 44 و 2 بط 2: 4 ).
ويسمى وادي هنوم اليوم وادي الربابة. ويسمى الجزء الشرقي منه توفة. وقد أطلق عليه ارميا اسم وادي القتل ( ار 7: 31 و 32 و 19: 6 و 2 مل 23: 10 ). ] (1) . و هكذا فأصل الكلمه يرجع إلي مكان كانت تقدم فيه الذبائح البشريه للإله مولك فيقدم اللاباء ابنائهم كضحيه ليرضي عنهم الإله ، فهي كما نري مكان يعبر عن ما يصل إليه حال الإنسان البعيد عن الله و من يبحث عن طرق اخري لإشباعه حتي انه يقدم ابنائه ليحترقوا ظاناً انه يقدم خدمه للإله . فيحرق الانسان نفسه بأعمال يديه و بإرادته الحره .

هل نفهم من هذا ان جهنم هي ممر او مكان به نار ماديه يحترق بها الانسان كنتيجه لأفعاله كما في وادي هنوم هذا ؟

هذا غير صحيح ، لإن جهنم هي حاله و ليست مكان  و ليست بها نار من الاساس ; نعم ، فجهنم ليست مكان مادي مخلوق به نار ماديه خلقها الله لتعذيب البشر بل جهنم هي حالة البعد و الاغتراب عن الله و هذا هو الاشد ألماً من أي عذابٍ مادي ، ربما هذا ما يشعر به البعيد عن الله الأن من حالة الحزن و اليأس و الوحده كلها حالات للغربه عن الله أكثر ايلاماً من أي عذاب أخر .





[ بالطبع هذا لا يعني انه لا يوجد مكان لاننا سنقوم باجساد بشريه كما قام المسيح بجسد بشري كامل ، لكني اتكلم من جهة العذابات فهذا هو الذي لا يحتاج مكان و لا دود و لا نار و لا شئ من هذا كما سنري ] 


و سندرس معاً كل مقطع من هذه الاجابه الموجزه لنعرف ان كانت تتطابق مع نصوص الكتاب و تعاليم اباء الكنيسه ام انها ابتداع نتيجة التأثر بالفكر الالحادي !

اولاً : الجحيم ليس مكاناً مادياً مخلوقاً :

يقول الاب المطران ايرثيئوس :  بعد ان تغادر النفس الجسد تنتظر مجئ المسيح و الدينونه الاتيه عند حدوث قيامة الاجساد . و مع ذلك هي تتمتع بعربون مُسبق بحسب اعمالها ، و تُقيم في الأماكن الخاصه التي يجب ان نفهمها علي انها طرق حياة خاصه ....ليست بالطبع هذه اماكن جغرافيه و لكنها اماكن نوسيه ( كلمة نوس تعني عند الاغريق العقل و المنطق و قد عمدها اباء الكنيسه لتعني عندهم عمق الانسان الداخلي او عمق العقل و القلب الذين تنبع منهما الافكار  ) .... فالقديس مرقس افيانيكوس يقول(2)  :  اننا عندما نقول ان الملائكه تسكن في السماء فإننا لا نعني مكاناً جسدياً  " لكن بالاحري مكان اسمي من العقل و الفهم " حتي و لو كنا نسميه مكاناً . (3)
 و يقول القديس غريغوريوس النيسي : لا ينبغي ان نظن ان الجحيم هو مكان و لكنه حاله للنفس غير مرئيه و غير جسدانيه .(4)

فكما نري أن الجحيم في تعاليم الاباء ليس هو ماكن مادي مخلوق . و نتسائل ما هو الجحيم إذاً إن لم يكن مكاناً ؟ 

 الجحيم هو حالة يعيشها الانسان البعيد عن الله ، حالة ربما نشعر بها جزئياً الأن عندما نخطئ و نبتعد عن الله المُحب ، حالة لا يمكن وصفها لانها ما لم تري عين و لم تسمع به أُذن حالة ابديه فوق المكان ، ربما نشعر بها جزئياً في الحزن و اليأس و الخوف و الوحده المره . ان يكون الانسان مفرغاً من الله بعيداً عنه . هذه الحالة التي يضع فيها الانسان نفسه بإرادته الحره بعيداً عن الله رافضاً و مصراً علي رفضه لله . فيخرج نفسه من دائرة العشق الالهي في الملء و التلذذ بالله .

يقول عنها الاب المطران ايرثيئوس فلاخوس : من البديهي ان لا يتعلق الامر بأماكن محدده و لكن كما قلنا من قبل يتعلق الامر بطرق حياة خاصة . يوجد فرق بين الفردوس و الجحيم كطرق حياة خاصه .
لا وجود للفردوس و الملكوت في منظور الله , و لكن في منظور الانسان . فالله يرسل نعمته لكل الناس طالما انه يشرق شمسه علي الاشرار و الصالحين و يمطر علي الابرار و الظالمين . و لو ان الله اعطانا وصية ان نحب الجميع و حتي اعدائنا فإنه بلا شك يفعل نفس الشئ . فمن المستحيل الا يحب الله الخطاه ايضاً , إلا ان كل شخص يشعر بمحبة الله بطريقة مختلفة بحسب حالته الروحيه .

للنور خاصيتان الاناره و الحرق . و لو كان لدي شخص ما ابصاراً جيداً فإنه يستفيد من خاصية الانارة التي لنور الشمس و يستمتع بكل الخليقة . و لكن لو وجد شخص اخر محروماً من عينيه و ابصاره فإنه يشعر بالضوء علي انه حارق . هكذا هو الحال ايضاً في الحياة الاتيه و في حياة النفس بعد مغادرة الجسد . سوف يحب الله الخطاة ايضاً و لكنهم لن يكونوا قادرين علي استقبال هذا الحب كنور , و لكنهم سيستقبلونه كنار حيث انهم لن يكونوا مقتنين لعين و بصيرة روحيه . (5)

و يقول القديس غريغوريوس النيزنزي : يجب استقبال هذه الأمور من منظور أن الحياة الاتيه ستكون نوراً بالنسبه لأصحاب الأذهان المُطهره " و بالطبع بحسب درجة طهارتها " ، و نسمي هذا ملكوت السموات . و هي ستكون ظلمة بالنسبة لإولئك الذين أظلم عضو التمييز لديهم التي هي في الواقع إغتراب عن الله . (6)

و يقول د / مورلاند : في الكتاب المقدس ، الجحيم هو الإنفصال أو الإبتعاد عن اجمل كيان في العالم – الله نفسه . إنه الإفراز عن أي شئ مُهم ، من أية قيمة ، و ليس فقط الله ، بل أيضاً من الذين عرفوه و احبوه .  (7)

و يقول القديس يوحنا الدمشقي موضحا ان العذاب ليس عقاب الهي، بل عدم امكانية الشركة في الله والتمتع والتلذذ به:ـ الله لا يعاقب أحد في المستقبل، لكن الجميع يجعلوا أنفسهم مستقبلين للشركة في الله. فالشركة في الله فرح، بينما عدم الشركة فيه هو الجحيم ! (8)

و يتحدث العلامة أوريجانوس مشبهاً الخطية بغليان الشئ حتي الفوران فكأن الخطيه هي غليان داخل النفس حتي وقت قيامة الاموات فتخرج ظلمة الخطيه لتغطي هذه النفس التي عاشت بحب حياتها بعيداً عن الله  : عندما تجمع النفس في داخلها اعمالا شريرة كثيرة وخطايا عديدة يأتي وقت تغلي فيه هذه الشرور ... عندما تجد النفس انها خرجت بارادتها من الترتيب والتدبير الكامل الانسجام مع ذاتها سوف تتحمل النفس الام العقوبة التي جلبتها علي ذاتها بخروجها الحر وسوف تشعر بعقوبة تغربها وتشتتها خارج هذا التديبر. “  (9)
و يكمل نفس التعليم القديس مقاريوس الكبير قائلاً : كما أن مملكة الظلمة والخطيئة تبقى خفيّة فى النفس إلى يوم القيامة، الذى فيه سوف تُغمر أجساد الخطاة أيضًا بالظلمة المختفية الآن فى النفس، هكذا مملكة النور، والصورة السماوية ـ يسوع المسيح ـ يضئ الآن سرًا داخل النفس، ويملك فى نفوس القديسين ولكنه مخفى عن عيون الناس، وعيون النفس فقط هى التى ترى المسيح حقًا حتى يأتى يوم القيامة، الذى فيه سيُغمر الجسد أيضًا بنور الرب ويتمجد به، ذلك النور المختفى الآن فى نفس الإنسان . (10)


ثانياً : نحن من نتغرب عن الله و ندخل في حالة الجحيم و ليس الله هو من يتركنا :

كما رأينا في تعاليم الاباء ان الله لم يخلق لنا مكان يسمي جهنم ليعذبنا فيه بل هو الم بُعدنا عن الله مصدر التعزيه و الفرح و الحياه ، و هذا ما أخترناه في الحياة بإرادتنا رافضين عمل الله .
يقول القديس باسيليوس الكبير : الله ليس مسببًا لعذابات الجحيم [الموت الأبدي] بل نحن أنفسنا، لأن أصل الخطية وجذرها كائن في حريتنا وإرادتنا. (11)

و يقول الاب دوروثيئوس : ليس للشر وجود في ذاته، لأنه ليس من ضمن المخلوقات، وليس له مادة. إنما النفس بانحرافها عن الفضيلة تصير شهوانية وتلد الخطية، فتتألم حيث لا تجد لها راحة طبيعية في ذاتها. هكذا تُنتج النفس الشر بذاتها، وتعود تتألم منه. يقول غريغوريوس اللاهوتي: "تتولد النار عن مادة، وهي تحرق المادة، هكذا يُفسد الشر الإنسان الشرير".(12)

و يقول القديس غريغوريوس النيسي : النفس هي التي تحمل علامات تغربها . و هذه النفس هي التي بنفسها تدين ذاتها بشده من اجل اهمالها . و سوف تصرخ و تبكي و ترثي لحالها خارجاً للأبد .  (13)

و القديس يوحنا ذهبي الفم : إن اختار احد ان يغمض أعين عقله و لم يرد ان يستقبل النور و اشعته ، ظلمة هذا الإنسان لا تأتي بسبب طبيعتة النور ، و لكنها تأتي بسبب شره الشخصي الذي ، بإرادته الحره ، يحرمه من هذه النعمه .  (14)

 و يقول د / مورلاند : إن الله هو الكيان الاكثر كرماً و حباً و روعة و جاذبية في الكون . لقد خلقنا بإرادة حره و خلقنا لهدف ، أن ننتمي إليه و للأخرين بحب . نحن لسنا اموراً عارضه ، و لسنا قروداً مُعدله ، و لسنا أخطاء عشوائيه ، و لو خبنا مراراً و تكراراً عن الحياه من اجل الهدف الذي خُلقنا لأجله – الهدف الذي سيسمح لنا ان ننمو اكثر من ان نحيا بأية طريقة اُخري – فإن الله لن يكون بوسعه علي الإطلاق إلا أن يمنحنا ما طلبناه طوال حياتنا ، و هو الإنفصال عنه .. و هذا هو الجحيم . (15)

و يقول العلامه اوريجانوس : فلننظر في ما قد تعني النار الابديه . إننا نجد ، بالواقع ، في اشعياء النبي إشاره إلي أن نار العقاب ملازمة كل إنسان : أدخلوا في لهيب ناركم و في الشرر الذي اضرمتم ( اش 50 : 11 ) . فهذه الكلمات تبدو و كأنها تبوح بأن كل إنسان إنما يوقد لنفسه شرر نار تلازمه ، بدل ان يُزج في نار أُخري أضرمها سواه من قبل ، و تتقدم في الوجود عليه . إن أود هذه النار ، و الماده التي تُغذيها ، هما خطايانا التي يُسميها بولس الرسول خشباً و تبناً و حشيشاً ( 1 كو 3 : 12 ) . (16)

و يؤكد علي ذلك القديس يوحنا الدمشقي : ليس لان الله صنع الجحيم، بل نحن من اوجدنا الجحيم لذواتنا، كما انه بالتأكيد ليس الله هو من صنع الموت، بل نحن من سببناه لانفسنا. (17)
و يقول في موضع آخر : لكنه إذ اخضع النفس للجسد و آثر الملذات الجسدية و تناسي كرامته الخاصة و ماثل البهائم و تشبه بها ( مز 34 : 13 ) , خالعا نير صانعه و محتقرا امر الهه فيصبح عرضة للموت و الفساد , فيلقي للعذاب و يعيش حياة شقية . لأنه لم يكن مفيدا له و لا لائقا به ان يحظي بالخلود بدون تجربة .... و عليه كان يجب ان يمتحن الانسان اولا لان رجلا بلا اختيار و لا تهذيب ليس جديرا بالاعتبار . و هو بالاختبار يكتمل في حفظ الوصية , و هكذا ينال الخلود جزاء فضيلته . فإن الانسان - و هو وسط بين الله و المادة - إذا حفظ الوصية و جنح عن ميله الطبيعي الي الكائنات , يصبح متحدا بالله اتحادا اعتياديا , اذ يكون قد نال رسوخا في الخير لا يتزعزع . اما اذا سقط , فيميل بالاحري الي المادة , و يحيد عقله عن الله علته , و يؤول الي الفساد , و يصير عرضة للألم - بدل عدم الالم - و للموت - بدل الخلود (18)

و يقول القيس مقاريوس : حينما تخرج نفس الإنسان من الجسد فإن هناك سر عظيم يتحقق. فإن كان الشخص المنتقل تحت ذنب الخطية فإن جماعات من الشياطين والملائكة الساقطين وقوات الظلمة يأتون ويأسرونه ويأخذون تلك النفس إلى مكانهم. ولا ينبغى أن يتعجب أحد من هذه الحقيقة. لأنه إذا كان هذا الإنسان أثناء حياته فى هذا العالم خاضعًا لهم وعبدًا مطيعًا لهم، فكم بالحرى عندما يترك هذا العالم، فإنه يصير أسيرًا لهم فى مملكتهم. (19)

و يتحدث القديس يوحنا ذهبي الفم مُعلقاً علي نص رسالة روميه قائلاً : لاحظ كيف يستخدم الكلمات بكل دقة، لأنه يقول: " تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب "، مبينًا أن الدينونة ستحدث على أية حال، وأن السبب فيها، ليس هو الذي يدين ـ أى الله ـ بل الذي يُدان ـ أى الإنسان الخاطئ ـ إذ يقول: " تذخر لنفسك"، أي أنت الذي تذخر لنفسك الغضب، وليس الله هو الذي يذخره لك. لأن الله فعل ما ينبغي فعله، وخلقك قادرًا أن تميز بين الأمور الحسنة والأمور السيئة، وأظهر لك طول أناه، وأنذرك باليوم المخيف، وكل هذا لكي يقودك إلى التوبة. فلو أنك تماديت في عنادك فإنك " تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة ". ولكي لا تعتقد عند سماعك لكلمة "غضب" إنه يوجد لدى الله بُغضة، فإنه يضيف عبارة "دينونة الله العادلة". (20)


ثالثاً : الجحيم ليس عقاباً من الله :

من البديهي ان العقوبة تكون عن امرٍ يمكن ان يتم إصلاحه و تغييره . فمثلاً الأب يعاقب إبنه من اجل ان يهذبه و يجعله افضل و يُعلمه ، لكن ما معني ان يكون العقاب ابدي ؟! هذا أمر غريب و ضد العقل و المنطق .. و كما رأينا فإن جهنم هي حالة يدخل فيها الانسان الذي بإرادته رفض الله و اصر علي حالة رفض الله فيخلي ذاته من مصدر الفرح و الحياه و التعزيه ليصير الي حالة الجحيم الكئيبه المظلمه . و هو بهذا ليس عقاب بل نتيجه لما رغبت فيه إرادة الانسان .
عن ذلك يقول الاب تادرس يعقوب : الله أب، يود أن يتبنَّى الإنسان الترابي. والوصية الصادرة منه دافعها الحب لا الاستعباد، إعلان الحرية لا الإذلال. هي وصية أبوية! أما العقوبة الصارمة التي أعلنها كجزاء للعصيان، فلم تكن للانتقام، بل للكشف عن النتيجة الطبيعية لعملٍ يرتكبه الإنسان بيديه.
فكما أن الأب يمنع طفله من لمس النار لئلا يحترق، لا لأنه يريد حرقه، بل لأن طبيعة النار محرقة. هكذا يحذر الله آدم من المعصية، لأن المعصية أو الانفصال عن طاعة الله بطبيعته يُفقد الإنسان حياته. فالتحذير والإنذار هنا من قبيل الحنو والترفق لا الغضب بمفهومنا البشري والانتقام.
والعجيب في حديث الله لنا، أنه لا ينسب النيران الأبدية إلينا، بل يقول إنها معدة لإبليس وملائكته (مت 25: 41)، وكأنها لم تُعد للبشرية. لكنه عندما يتحدث عن الملكوت السماوي ينسبه لنا، "معد لكم" (مت 25: 34).(21)

و يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : الذين اخطأوا و لو في حقه لا يرغب في معاقبتهم انتقاماً لنفسه لانه لا يصيب لاهوته ضرراً , انما يفعل ذلك لاجل نفعنا نحن , لكي يمنع انحرافنا الذي يتزايد باستهتارنا و عدم مبالاتنا به . فكما ان الذي يبقي خارجاً بعيداً عن النور ,لا يضر النور في شئ , بل تقع الخسارة العظمي عليه كونه في الظلام , هكذا من اعتاد ان يحتقر القوة القادرة , لا يضر القوة بل يضر نفسه بأكبر ضررٍ ممكن . (22)

و يقول ابو الفلسفه اليونانيه و حليف الاباء افلاطون :  المسؤلية علي من اختار اما الله فبغير ذنب  .(23)


رابعاً : معاني عذابات الجحيم المذكوره في الكتاب المقدس :

القراءه السريعه و السطحيه للكتاب المقدس تولد عدم فهم سليم لكلمة الله و هذا الفهم الخاطئ هو ما ينتج عنه كل تعليم شرير اصاب الكنيسه منذ بدع القرون الاولي إلي اليوم .فيقول القديس هيلاري ( أثناسيوس الغرب ) :  إن الكتاب ليس في قراءته بل في فهمه . (24) ، ويقول الاب متي المسكين : تبقي موهبة معرفة الكلمه علي اسس صحيحه من الانجيل و بفهم صحيح و إدراك صحيح بحسب الفكر الانجيلي و اللاهوتي , تبقي هي الاساس الاول الذي لا غني عنه و الذي عليه يتوقف عمل كل موهبه اخري , و يكفي ان نتصور انساناً يسعي لينال موهبة الخدمه او التعليم او النبوه او التكلم بلسان او الشفاء او الوعظ , و هو غير مُتأسس علي معرفة الانجيل بعهديه معرفه متقنه , فالعثره و التخبط و البلبله التي قد يقع فيها كفيله لا ان تلغي كل موهبه اخري , بل و تشكك في مصدرها و تهدم الكنيسه .  (25) . و الضابط للفهم الصحيح لكلمة الله هو داخل الكنيسه و ضمن جماعتها المصليه النقيه ، فيقول الاب جورج فلورفسكي : الكتاب ينتمي إلي الكنيسه  و لذلك يُفهم بشكل وافٍ و يُفسر بشكل صحيح فيها و ضمن جماعة الإيمان القويم فقط . أما الهراطقه , أي الذين خارج الكنيسه , فلم يملكوا مفتاح فكر الكتاب , لانه لم يكن الاستشهاد بكلام الكتاب كافياً إذ يجب علي الإنسان أن يشرح معني الكتاب الحقيقي و القصد منه بشكل كليّ , و أن يُدرك مُسبقاً نموذج الاعلان الكتابي و مخطط عناية الله المُخلِّصه ( الخلاصيه ) .و هذا لن يتحقق إلا بالرؤيه الايمانيه .  (26) و لهذا قدمنا كل الاستشهادات الابائيه السابقه التي تدل علي اجماع الاباء و تعليمهم القويم في موضوعنا ، و سنعتمد عليهم ايضاً لفهم معاني الكتب المقدسه في وصفها للآلام الجحيم ..

إن قديسيي الكنيسه يأخذون النار الماديه و العقاب اللانهائي " بطريقة مجازيه " فهي مسألة مجازيه لان نور الابرار غير مادي ، كما ان نار الخطاه ليست مخلوقه ولا ماديه (27) . فهما حقيقتان واقعتان و حالتان حقيقيتان ، و لكنهما ليسا كالحالات التي نعرفها من عالم الحواس .

يستخدم الكتاب المقدس العديد من الصور ليصف حالة ( الاشرار في الابديه ) مثل النار و الدود و الثعابين و صرير الاسنان . تعبر كل هذه عن حقائق أُخري . فيفسر القديسيون النار بالجهل بالله . فلا يجب ان نظن ان هذه النار هناك هي نار ماديه ولا ان الظلمه الخارجيه هي شئ اخر غير الجهل بالله . (28)

و هذا نفهمه من صريح نصوص الكتاب المقدس ففي حين ان الكتاب يصف الجحيم بنار لا تطفأ ، يقول انها ظلمات ! فكيف تكون نار و ظلمه في نفس الوقت إن لم يكن المعني مجازياً ؟ . و يعلق المطران ايرثيئوس قائلاً : يوصف الجحيم بصورة النار و الظلمه ، و لكن هذين التصويرين متضاضين ! إذاً ليس الجحيم لا نار و لا ظلمه كما نعرف هاتين الحقيقتين . (29)  ، و ايضاً يصف الكتاب حالة الانسان هناك بأنه يبكي و يصر علي اسنانه . و هذا ضد ان يكون الانسان محترقاً فالصرير علي الاسنان معناه اما ان الانسان يتجمد من البرد او في حالة حزن و غيظ شديد !! ، و قيل في سفر الرؤيا ان الجحيم و التنين و الموت سيلقون في جهنم ! فهل الجحيم و الموت اشخاصاً حتي يتم الالقاء بهم في جهنم ؟! ام المعني الرمزي  انهم سيفنون و يكونون بعيدين عن مكان الابرار ؟ و غير ذلك الكثير ، فالرب كان دائماً يتكلم بأمثال و يقول عنه متي الانجيلي : ( هذا كله كلم به يسوع الجموع بامثال و بدون مثل لم يكن يكلمهم 35  لكي يتم ما قيل بالنبي القائل سافتح بامثال فمي و انطق بمكتومات منذ تاسيس العالم .. مت 13 : 34 -35 ) .

و لهذا يقول القديس ذهبي الفم : لا تأخذوا الكلمات بحسب الفهم الظاهر ، و لكن فسروا عمق معناها من خلال الفهم الإنساني المحدود . كما ترون ، إن لم يستعمل هذه العبارات فكيف كان من الممكن ان نفهم هذه الاسرار التي تفوق الوصف . (30)

و هذه التعبيرات الرمزيه هي اسلوب التعليم الكتابي دائماً ، فمثلاً السيد المسيح قد قال عن نفسه انه الكرمه ، و حجر الزاويه ، و باب الخراف ... إلخ . و ليس الرب شجرة و لا حجراً ولا باباً !!! إنما هذه المجازات تشرح لنا طبيعة عمله الذي تعجز اللغة البشرية عن وصفه . و هناك فارق بين ما هو حق حرفي (  exact)  و ما هو حق غير حرفي (  true , but not exact ) ; المسيح ولد و مات و قام و صعد .. هذا حق حرفي تاريخي ; و المسيح هو بالحقيقة الكرمه و حجر الزاوية و باب الخراف ... هذا حق و لكنه غير حرفي . و وصف العذاب الابدي في الكتاب المقدس بأنه ( ظلمه خارجيه ) – ( نار و كبريت ) – ( شعور بالذبح ) – و ( دين لا ينتهي إلا بدفع الفلس الاخير ) – و ( دود لا ييموت و نار لا تطفأ ) ... و هذه كلها اوصاف من عالمنا لشرح ما لم تسمع به أذن و ما لم تر عين و ما لم يخطر علي قلب بشر من عذاب الحرمان من الله ; الله الذي معرفته هي هي الحياة الابديه ذاتها ( يو 17 : 3 ) . فإن كانت الحياة الابديه هي معرفة الثالوث القدوس و عشرته للأبد  ، فالموت الابدي واضح انه ليس في عذابات يمكن شرحها ، بل في حرمان عذابه اسوأ من اي نوع من العذاب الذي نعرفه في عالمنا المادي .  (31)

و يقول القديس مرقس افيانيكوس شارحاً بعض اوصاف آلام الجحيم   : إننا بلا شك عندما نتحدث عن الجهل بالله نعني عدم الشركه فيه ، طالما اننا نُدرك ان الخطاه سوف يرون الله . بمعني انهم سوف يرون الله و لكنهم لن يشتركوا فيه ، و سيكونون جُهال به . إن معرفة الله في التقليد الارثوذكسي هي الاشتراك فيه . و تشير الدوده او بعض السلالات من الزواحف السامه أكلة اللحوم إلي عذاب الاشرار بواسطة ضميرهم و ندمهم المرير . و يعني صرير الاسنان نفس الشئ بالظبط ، أي انه يُشير إلي الحزن و الغضب و النحيب المر الذي لإولئك الذين هم في صراع مع أنفسهم . (32)

و يوضح القديس امبرسيوس ايضاً معني صرير الاسنان و النار قائلاً : صرير الأسنان ليس صرير أسنان جسدية ! وليس الدود أيضا جسديا ! لم تكتب هذه الأمور الا لأن الدود يظهر مع الحمي الشديدة، وكذلك من لا يتوب ويطهر من خطاياه سوف يحترق في ناره ويتآكله دوده. لهذا كتب اشعيا سيروا في نيرانكم والشرار الذي أوقدتموه (اش 50: 11) انها نيران كآبة الخطية ونتيجتها، انها كالدود لأن خطايا النفس تطعن العقل والقلب وتأكل أحشاء الضمير. “ (33)

 و يكمل العلامه اوريجينوس : اما في أمر الظلمات الخارجيه فلا تشير ، برأيي ، إلي مكان مُظلم من الجو إنتفي النور عنه ، قدر إشارتها إلي حال الذين غرقوا في ظلمات جهل مطبق ، بعيداً عن كل نور يبزغ من العقل و الادراك . (34)
و يكمل القديس غريغوريوس بالاماس في معني الظُلمه الخارجيه  تعليقاً علي ( مت 22 : 1 – 14 ) قائلاً  : عدم اقتنائه ثياب العُرس ترتبط بطرده من مكان إقامة المتنعمين و من الارتباط الوثيق بهم . فالأمر يتعلق بصورة رئيسيه بالإنفصال عن الله و عدم الإشتراك في نعمته .تشير حقيقة ان يديه و رجليه قد رُبطت بأمر الملك إلي رباطات الشخص بخطاياه المتلاحقه في هذه الحياه . فالألم غير المُحتمل و العذاب العظيم الذي يشعر به الشخص عندما يرتكب هذه الخطايا في هذه الحياة سوف يستمران ايضاً في الحياة الابديه . و حقيقة انه مُلقي في الظُلمه الخارجيه تُشير إلي صيرورته بعيداً عن الله لانه لم يعمل اعمال النور هنا . (35)

لكن لماذا استخدم الله هذا الاسلوب للتحذير من نتيجة الحياة في الخطيه ؟ يقول القديس يوحنا فم الذهب :  لكن كيف يستطيع ذاك الذي يحب أن يُهدد بجهنم والجحيم والعقاب؟ يهدد بهذا من أجل المحبة ذاتها. لأنه يريد أن يجتث خطيتك بالترهيب الذي يستخدمه كلجام يضبط به اندفاعك نحو الأمور الأكثر سوءًا، وهو يصنع كل شئ لكى يضبط سلوكك ويوجهك نحو الطريق المستقيم، سواء عن طريق الوعد بالخيرات أو بالتحذير من الانحدار إلى الأمور المحزنة، فيعود بك إلى الطريق المؤدى إليه مُبعدًا إياك عن كل الشرور التي هى أكثر فزعًا من الجحيم ذاته. (36)
فالإنسان لا يمكنه تخيل مدي صعوبة الحالة في البعد عن الله . فيريد الرب ان يظهر له من العالم المادي ان هذا امر يفوق كل عذاب .

و أخيراً فإن حالة الانسان الخاطئ البعيد عن الله هي اصعب و اشد ايلاماً من كل عذاب مادي بشري . فيقول القديس مار اسحق السرياني : فإن الاسي الحاصل في القلب بسبب الخطية ضد محبة الله هو أكثر حدة من أي خوف من العقاب . ،، و يكمل قائلاً : إن الخطاه في جهنم محرومون من محبة الله . (37)



قبل ان ينتهي كلامنا يجب ان نعرف ان الذوبان في العشق الالهي هو ما نسعي نحوه اي نحو الله و الشركه معه سواء كانت هنا علي الارض او في مكان اخر ، فقمة لذتنا و اكتمال شبع نفوسنا هو في ذاك الشخص المُحب الذي يملأ الكل و يعطي الكل كل شئ حتي ذاته ، إذ هو يريد ان يتحد فينا و يملأنا منه تعزيه و رجاء و سلام و يشملنا بعطف محبته . يقول ذهبي الفم : نقول إن لا الخلاص من جهنم ولا التمتع بالملكوت يعتبر أمرًا ذى قيمة كبيرة إذا ما قورن بذاك الذي سنراه في الدهر الآتى. لأن الأعظم من كل هذا هو محبة المرء للمسيح وتمتعه بمحبة المسيح. لو ساد هذا على حياة البشر فهو أسمى من كل اعتبار. وعندما يتحقق هذا فأى حديث وأى فكر يمكن أن يُعبّر عن طوباوية هذه النفس؟ لا يوجد شئ آخر، سوى اختبار تذوق هذه السعادة. (38)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - رجعت إلي قاموس الكتاب المقدس لانه قام بتلخيص الموضوع مع ذكر الامور الرئيسيه . لكن هذا ايضاً ما قالت به جميع القواميس الموسوعيه للكتاب المقدس و سأذكرها ان اردت معرفة المزيد عن هذا الموضوع : قاموس المحيط الجامع في الكتاب المقدس ، حرف الجيم ، جهنم في العبريه .... دائرة المعارف الكتابيه ، حرف الجيم ، جهنم .... القاموس الموسوعي للكتاب المقدس للعهد الجديد . فيرلين د.فيربروج . ترجمة مكتبة دار الكلمه . كلمه رقم 1147 . ص 122 ، 123 .


2 - جدير بالذكر أن القديس مرقس افيانيكوس رئيس اساقفة مدينة افسس هو احد اباء القرن الخامس عشر الارثوذكسيين و كان ممثلاً للوفد الارثوذكسي في مجمع فيرارا – فلورنسا [ 1438 – 1439 ] و الذي كان يهدف إلي وحدة الكنائس و قد تصدر موضوعاته عقيدة المطهر التي ظهرت في قرون متأخره عند اللاتين .

3 - الحياة بعد الموت . ايروثيئوس فلاخوس مطران نافاباكتوس . ترجمة د. نيفين سعد . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتينج .  ص 65 .  Mark  Eugenicus , po 15 p 153 

4 -  الحياة بعد الموت . مرجع سابق .  ص 66 . Gregory Of  Nyssa , op . cit . p 235 

5 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق . ص 24

6 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق . ص 191 .  Gregory the theologian , or . 40 . 45 , on holy Babtism ,NPNF ns vol .7 , p 377

7 - د / ج . ب . مورلاند ، دكتور في الفلسفه من جامعة كاليفورنيا الجنوبيه  و اللاهوت من معهد دالاس و قد أصدر اكثر من 12 كتاباً في قضايا لاهوتيه مختلفه ... عن كتاب القضيه الايمان . لي استروبل . ترجمة حنا يوسف ، إصدار مكتبة دار الكلمه .  ص 224

9 - Against the Manicheans, PG 94:1545D-1548A . بحث الاستاذ اشرف بشير . https://www.facebook.com/note.php?note_id=10150196548430889

8 - The faith of the early fathers vol I, p196 . بحث الاستاذ اشرف بشير . https://www.facebook.com/note.php?note_id=10150196548430889

10 - عظات القديس مقاريوس الكبير . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه  . عظه 2 : 5 . ص 42

11 - القديس باسيليوس الكبير . الحب الالهي . الاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتينج . ص 104 ، نقلاً عن دكتور عدنان طرابلسي: الرؤية الأرثوذكسية للإنسان، منشورات النور، لبنان. ص  137

12 - الأب دوروثيؤس . الحب الالهي . مرجع سابق . ص 104 .

13 - The faith of the early fathers , vol ii . p 57 – 58  . العداله الالهيه حياه لا موت ، مغفرة لا عقوبه . د / هاني مينا ميخائيل . مراجعة و تقديم نيافة الانبا اثناسيوس مطران بني سويف المتنيح  ص 147

14 - The faith of the early fathers , vol ii . p 106  . العداله الالهيه حياه لا موت ، مغفرة لا عقوبه . مرجع سابق .   ص 147 .

15 - عن كتاب القضيه الايمان . لي استروبل . ترجمة حنا يوسف ، إصدار مكتبة دار الكلمه .  ص 223

16 - المبادئ للعلامه اوريجينوس 2 – 10 – 4 .تعريب الاب جورج خوام البولسي . منشورات المكتبة البولسيه . سلسلة الفكر المسيحي بين الامس و اليوم (31 ) . ص 238

17 - Against the Manicheans, PG 94:1569Β . بحث الاستاذ اشرف بشير . https://www.facebook.com/note.php?note_id=10150196548430889

18 - المائة مقالة في الايمان الارثوذكسي . ترجمه عن اليونانيه / الارشمندريت أدريانوس شكور . مترجم عن : migne . P . G  ., t . 94 , vol . 789 – 1228   . ص 144


19 - عظات القديس مقاريوس الكبير . ترجمة د / نصحي عبد الشهيد . إصدار المركز الارثوذكسي للدراسات الابائيه. عظه  22 : 1 .  ص 212

20 - تفسير رسالة بولس الرسول إلي أهل روميه . ترجمه عن اليونانيه د / سعيد حكيم يعقوب . مراجعة د / جوزيف موريس فلتس . الجزء الاول . ص 116 . تعليقاً علي ( رو 2 : 5 ) .

21 - الحب الالهي . الاب تادرس يعقوب مالطي . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتينج . ص 249

22 - إتركها هذه السنه ايضاً . للراهب هرمينا البراموسي . ص 33 , 34  N.P.N.F first series vol . IX , an exhortation to Theodore after his fall , letter 1 . p 93

23 -  النصوص المسيحيه في العصور الاولي . القديس يوستينوس الفيلسوف و الشهيد . الدفاعان و الحوار مع تريفون و نصوص اخري . ترجمة أ / امال فؤاد . مراجعة عن النصوص الانجليزيه و اليونانيه هيئه علميه اكاديميه تحت اشراف د / جوزيف موريس فلتس . الدفاع الاول ف 44 .  ص 71 .  De Repub 10 . 617 E 

24 - هيلاري اسقف بواتييه . الي كونستانس 2 : 9 . مجموعة الاباء اللاتين , مين 10 . 570 – الاب جورج فلورفسكي . الكتاب المقدس و الكنيسه و التقليد . ص 95 .

25 - الاب متي المسكين . الروح القدس الرب المحيي . ج2 . ص 773

26 - جورج فلورفسكي . الكتاب المقدس و الكنيسه و التقليد . ص 96

27 - المقصود انها ليست مخلوقه من الله لانها ليست شئ مادي بل هي احساس بالغربه و البعد عن محضر الله مصدر السعاده فتصبح الابديه بؤس علي من عاشوا في ظلمة رافضين نور الله .

28 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق . ص 139

29 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق .  ص 196

30 - Reason & faith – p . 205  .. العداله الالهيه حياه لا موت ، مغفرة لا عقوبه . د / هاني مينا ميخائيل . مراجعة و تقديم نيافة الانبا اثناسيوس مطران بني سويف المتنيح  .  . ص 50

31 - العداله الالهيه حياه لا موت ، مغفرة لا عقوبه . مرجع سابق .   ص 50 ، 51

32 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق  . ص 139 .  Mark Archbichop of Ephesus : Homily 2 , P.O .15 . p . 130

33 - The Faith of the Early Fathers Vol 2 p 163 . العداله الالهيه حياه لا موت ، مغفرة لا عقوبه . مرجع سابق .  ص 89 .

34 - المبادئ للعلامه اوريجينوس 2 – 10 – 8 .تعريب الاب جورج خوام البولسي . منشورات المكتبة البولسيه . سلسلة الفكر المسيحي بين الامس و اليوم (31 ) . ص 243 .

35 - الحياة بعد الموت . مرجع سابق  . ص 172 .  Gregory palamas , hom 41 , EPE 10 , p 574 – 576.

36 - تفسير رسالة بولس الرسول إلي أهل روميه . ترجمه عن اليونانيه د / سعيد حكيم يعقوب . مراجعة د / جوزيف موريس فلتس . ج 2 . ص 94  . تعليقاً علي ( رو 5 : 11 ) .

37 - الحياة بعد الموت . ايروثيئوس فلاخوس مطران نافاباكتوس . ترجمة د. نيفين سعد . إصدار كنيسة مارجرجس اسبورتينج . ص 189 . Isaac the Syrian : the ascetical homilies , hom 64 , op . cit . p . 223 .

38 - تفسير رسالة بولس الرسول إلي أهل روميه . ترجمه عن اليونانيه د / سعيد حكيم يعقوب . مراجعة د / جوزيف موريس فلتس . ج 2 . ص 99  . تعليقاً علي ( رو 5 : 11 ) .